مقدمة:
"ان هم الأديب الصغير أن يصقل قصيدة أو يُحسن تأليف قصة أو مقال، ولكن هم جيتيه كان تأليف شخصيته وتربية نفسه"
منى سلامة
لم يخطر لي من قبل أبداً فكرة تأليف وصقل شخصيتي، فأنا أحب جدا تأليف الشخصيات في رواياتي وكتبي، لكن أن أؤلف شخصيتي أنا لم أنتبه إليها إلا أن تعرفت على شخصية جيتيه في كتاب هؤلاء علموني لمنى سلامة، ومنذ ذلك اليوم أصبح همي الأكبر تأليف وصقل شخصيتي.
تقول منى سلامة في كتابها عن جيتيه " نتعلم من جيتيه أننا يجب أن نؤلِّف شخصيتنا قبل أن نؤلِّف أي شيء آخر، ليس هناك ما هو أهم منها عندنا"
فعلاً ليس هناك شيء أهم من تأليف وصقل شخصيتنا، نحن كبشر نريد كثيراً تغيير العالم من حولنا وننتقد الشعب وننتقد النظام وننتقد السياسة وننتقد الوطن ونُريد العيش بين اُناس مثاليين في وطن مثالي، لكن هل جربنا أن ننتقد أنفسنا قليلا؟ هل جربنا أن نُغير أنفسنا حقا؟ هل عملنا بالآية التي تقول" لا يُغير الله قوما حتى يغيروا ما بأنفسهم".
لم نفعل كل هذا، أليس كذلك؟ لأننا فقط ننتقد ونتحدث عن كل شيء حولنا إلا أنفسنا، إذا ما رأيكم أن نجرب تأليف شخصيتنا وصقلها ونركز على أنفسنا وعيوبنا، أليس هذا أحسن من محاولة تأليف شخصيات الناس؟
مشكلة تقليد الناس، متى ستنتهي؟
من أكبر العوائق والأسباب التي تمنعنا من تأليف وصقل شخصيتنا أننا نحاول دائما تقليد الاخرين ومبدئنا في الحياة "اتبع القطيع لترتاح" لا يا صديقي لن ترتاح باتباع القطيع لأنك ستصبح نسخة أخرى من القطيع، والعالم لا يحتاج الى المزيد من النسخ، العالم اليوم يحتاج الى شخصيات جديدة، فكونك شخصيتك أنتَ وليس التقليد سيؤثر في هذا العالم بشكل إيجابي، لكن انتبه أن تكون شخصيتك ضمن حدود الإنسانية وقواعد العيش بسلام.
العوامل التي تؤدي بنا لتقليد الاخرين دون أن نشعر بذلك:
العائلة
معظم العوائل في العالم العربي تُحب مقارنة أبنائها مع أبناء الناس، انظر الى ابن اختي، انظري الى بنت الجارة، أنا عندما كنت في عمرك كنت...، هذا الواقع للأسف والمؤسف أكثر أن معظم هاته العوائل لا ترى نفسها أبداً مخطئة، ان كنتَ عزيزي القارئ أماً أو أباُ فأرجوك لا تقارن أبداً ابنك مع الاخرين لكن حاول أن ترى الجوانب الجيدة من شخصية ابنك فلا يوجد انسان مثالي، وابن الجيران أو ابن اختك أيضا ليسوا مثاليين، ولا تستغرب أبداً أن اختك تتمنى أن يكون ابنك ابنها. أما إن كنت عزيزي القارئ الابن أو الابنة التي تتعرض للمقارنة، فلا تكرهوا والدَيكم على هذا الأمر لأن هاته هي العقلية التي ترسخت في العائلات العربية، لكن أيضا لا تتقمصوا دور أي أحد، حاولوا دائما أن تُّكبروا الجانب الإيجابي منكم وتغيروا الجانب السلبي، وألِّفوا الشخصية التي تُريدونها أنتم في أنفسكم.
المثالية
رُؤيتنا لحياة الاخرين في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تبدو كأنها الحياة المثالية التي يتمناه أي إنسان, فنُصبح نُقَّلد ذلك الشخص لكي نستطيع أن نعيش حياة مثالية مثله، لكن نحن لا نرى حياة ذلك الشخص الحقيقة، فأي إنسان منا يحاول إبراز الجوانب الجميلة من حياته على وسائل التواصل الاجتماعي وهكذا يبدوا لنا أن الجميع حياته مثالية إلا نحن والجميع شخصيته مثالية إلا نحن، لكن هذا ليس صحيح فلكل منا عيوب في شخصيته وطبيعتنا البشرية لا تسمح لنا بإظهارها أمام الاخرين فدائما نحاول إظهار الجانب الإيجابي منا وإخفاء الجانب السلبي، لذلك توقف عن رؤية المثالية في الجميع ولوم نفسك باستمرار، وبدل ذلك ركز على نفسك وعلى تطويرها يوما بعد يوم فقط.
الحب
حبنا الكبير لإنسان ما، يجعلنا تلقائيا نُقلده في تصرفاته دون أن نَنتبه، نُحاول دائما أن نَكون مثله، في غالب الأحيان السبب يكون لكي ينتبه لنا ويرى أننا نشبهه وبهذا يستطيع أن يبادلنا نفس الشعور، لكن هذا خطأ كبير وظلم أكبر في حق أنفسنا، وبهذا التصرف لن نجعل الطرف الاخر يحبنا لكن سنفقد قيمتنا مع مرور الوقت وعلى الأكيد أننا لا نحب أبدا فقدان قيمتنا.
قلة الثقة بالنفس
عدم ثقتنا بأنفسنا وذاتنا وشخصيتنا، تجعلنا نقلد أي شخص نراه وتقليدنا للناس يجعلنا نشعر بالأمان، وعلى حد ظننا أن الناس سَتُعجب بنا لأننا نَتصرف مِثلهم، لكن إن بدأنا في تقليد أي إنسان نراه كيف سَيُصبح حالنا؟ ومتى سنكون الشخصية التي أردناها والتي نحلم أن نكونها؟
طبعا تقليد الناس ليس سيئ لدرجة كبيرة فهو جيد أحياناً عندما نأخذ صفة أو صفتين جيدتين من أي شخص ونحاول تطبيقها لتأليف شخصيتنا.
ماذا تحتاج لتأليف شخصيتك؟
الكتابة
تُخبرنا منى سلامة أن جيته كان يكتب يومياته، وكأنه يُحاسب نفسه على درجات رقيه وبناء شخصيته يومًا بعد يوم، وبعد سنين أَتت موضة تدوين اليوميات من خلال المسلسلات التي نشاهدها، فتاة جميلة تحمل دفتر معها وتكتب فيه ذكرياتها ويومياتها، لكن لم نكتشف الأهمية العظمى لدفتر اليوميات وكيف يساعدنا على تأليف الشخصيات، وطبعا مع عقليتنا السائدة احتكرت الإناث أكثر فكرة الكتابة وتدوين اليوميات على الرغم أنه أمر مهم للجنسين ولأي انسان يريد أن يرتقي بذاته نحو الأفضل ويؤلف ويُرَّبي نفسه.
اذن فلتبدأ من اليوم أول خطوة لتأليف شخصيتك:
أولا: أكتب جميع تفاصيل وأحداث يومك بالترتيب من موعد استيقاظك حتى موعد نومك، دون أن تنسى أي تفصيل.
ثانيا: بعد أسبوع خذ ما كتبت وأعد قراءته ثم حدد ما تُحب أن يكون في شخصيتك لتَقوم بإِبرازه أكثر من خلال روتين يومك، وحدد ما لا تُّحب في يومك واعمل على أن تُزيله، لكن تمَّهل الأمر ليس سهل فربما تحتاج أسبوع أسبوعين شهر شهرين عام عامين، لا أحد يعلم، لذلك لا تيأس من أول تجربة.
ثالثا: اكتب نَعيك. اكتب في صفحة أو صفحتين النعي الذي تريد أن ينعوك به الناس، ماذا تُحب أن يقوله الناس عنك يوم وفاتك؟
مثلا: كان الدكتور احمد انسان متواضع يُحب ان يُعالج جروح الجميع دون ان يُفرق بين غني او فقير، يُحب جدا اللعب مع أطفال الحي، لذلك جميع الأطفال يُحبونه وجميع الأطفال في الحي تأثروا لموته...
بعد كتابتك لنعييك ستكتشف حقا ذاتك والشخصية التي تريد أن تكونها.
وأخيراً افعل مثل جيتيه، اكتب يومياتك حاسب نفسك بدل أن تحاسب الناس، قدم الحساب لنفسك بدلا أن تقدمه للناس، تقرب من نفسك بدلا من أن تتقرب الى الناس، أحب نفسك بدلا من انتظار حب الناس.
لا تركز على الاخرين ركز على نفسك
عندما تبدأ في انتقاد الشعب والحكومة والأصدقاء والعائلة قف وتذكر "لا يُغير الله من قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
الانشغال بالناس وبُعيوبهم وأخطائهم أمر سهل للغاية، لكن الانشغال بأنفسنا وذنوبنا وأخطائنا وأن نضع أنفسنا محل كل انسان انتقدناه، شيء صعب ومُميز للغاية يحتاج لسنين من تهذيب وتربية النفس، وإن انشغلنا بتهذيب وتأليف أنفسنا سننسى تأليف الاخرين وسننسى البحث عن الكمال فيمن حولنا لأننا وصلنا لمرحلة إدراك ووعي بأن من يجب تغييره وتأليفه والتركيز عليه هو أنفسنا وذاتنا وليس الاخرين.
هل يجب أن نتخلى عن مبادئنا الان؟
المبادئ هي البنية الأساسية لحياة أي انسان، تنشأ المبادئ الأخلاقية مع الانسان بالفطرة ثم الظروف وتربية الأهل والمجتمع وأحيانا الجينات الوراثية تغيير من المبادئ الأخلاقية التي نشأنا عليها.
في طريقك نحو تأليف شخصيتك ستمر بمرحلة تأليف المبادئ، وتسأل نفسك هل يجب أن أغير مبادئي الان؟ هنا أقول لك أن مبادئك التي لا تتخطي حدود دينك سواء كنت مسيحي أو مسلم أو يهودي أو تنتمي لأي ديانة أخرى يجب أن تحتفظ بها ولا تتخلى عنها أبدا، مبادئك التي لا تؤذي أي مخلوق على وجه الأرض سواء نبات أو حيوان أو انسان أيضا لا تتخلى عنها، مبادئك التي تخطت حدود الإنسانية وحدود دينك وتشكل خطر على أي مخلوق على وجه الأرض تخلى عنها ولا تتمسك بها أكثر، فهنا الهدف من تأليف شخصيتك، أن ترتقي بنفسك لدرجات عالية من التهذيب والتربية وتكون مثال جيد لهذا العالم وليس العكس.
وعلى ما أعتقد أن أي انسان يصل لفكرة تأليف نفسه انسان جيد في مبادئه وأخلاقه، محب لأمته ومحب للكون الذي يعيش فيه فلا يستطيع أن يؤذي أي مخلوق على وجه الأرض دون تمييز انسان أو حيوان، مسلم أو يهودي، أسود أو أبيض....
الخاتمة:
"لا تتحمس" وأنتَ في طريقك لتأليف شخصيتك لا تبدأ بسرعة كبيرة، تمهل في اختيار ما تريد اضافته لشخصيتك وما تريد ازالته، ابدأ من الشيء الأسهل بالنسبة لك مثلا أنا كان الشيء الأسهل بالنسبة لي أن أكتب يوميا لأستطيع أن أنمي شخصية الكاتبة الموجودة داخلي، مثلا انسان اخر الأمر الأسهل بالنسبة له الصلاة، يبدأ في ضبط صلاته كل يوم ويلتزم بها, وعندما يستطيع الالتزام بها سيملأه شعور الإنجاز ثم سيرغب بالمزيد وهنا يأتي دور إضافة أو إزالة شيء بداخله وهكذا حتى نبلغ غايتنا، وتذكر عزيزي القارئ حتى ان لم تصل لغايتك يوما ما، تذكر أنك مشيت على الطريق ولم تستسلم يوما وحاولت دائما الوصول الى الشخصية التي تريد تأليفها وهذا جد كافي، فكما يقول الأستاذ أحمد الشقيري "الله لا يريد منا الكمال، لكن يريد منا السعي المستمر نحوه"
التعليقات