لم تكن حماية العلماء العرب وأئمتهم للغة العربية بدافع التعصب الأعمى لها، وإنما لإدراكهم أن فى تلك اللغة آية من آيات الله الخالدة، وبكلماتها تُخلَق آمال وتُهدَم أحلام، لكونها التجسيد الحقيقى للذات والهوية والأنا ولثقافة الأمة وتاريخها.
كان العلماء والأئمة يدركون أن الحفاظ على لغة العرب هو حفاظ على لغة القرآن الكريم، وأنها السبيل الوحيد لفهم الدين، فكيف لأمة الإسلام أن تحيا ويعظم شأنها دون إجادة اللغة العربية، قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه وأرضاه: (تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتفهّموها فإنها تزيد فى العقل وتُثبت فى المروءة)، وقال ابن تيمية: (إن اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب، وبما أن الكتاب والسُنَّة فرض، فلا سبيل لفهمهما إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وقال المستشرق الألمانى «كارل بروكلمان»: (لقد بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع ما لا تكاد تعرفه أى لغة أخرى من لغات الدنيا)، وصدق الرافعى عندما قال: (ما ذُلَّت لغة شعب إلا ذُل، وما انحطت إلا كان أمره فى يد غيره).
وبالرغم من عظمة اللغة العربية وأهميتها وقيمتها- على النحو الذى ذكرنا- إلا أنها باتت مهانة مهدرة، بل توشك أن تصبح أعجمية بين أهلها وربما لغتهم الأجنبية الرابعة، وتوشك أن تموت أيضا وهى لغة القرآن التى بها نفهمه ونتعرف على أحكامه وتفسيره، فماذا جرى؟ هل فقدت الأمة اللغة، أم فقدت اللغة الأمة؟!!.. فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال لا أظن أن لغة العرب قابلة للضياع والاختفاء لأسباب عديدة، لعل أهمها من وجهة نظرى:
أولاً، المرونة التى تتمتع بها اللغة العربية وقابليتها للنحت والإبدال، وهو ما قد يُختصر فى عدد بعض الكلمات فى كلمة واحدة وتبديل حروف بحروف على سبيل التسهيل والتبسيط.
ثانيا، احتواء اللغة العربية على عدد من المرادفات والألفاظ قد يتجاوز الاثنى عشر مليون كلمة، هذا بالإضافة للتوسع الممكن فى الاشتقاق من الجذور اللغوية وفى تنويع الحركات، بما يؤدى لاختلاف المعانى.
ثالثا، ارتباط اللغة بالقرآن وبالعلوم الشرعية، مما يضفى عليها قداسة فى نفوس المتمسكين بالدين والحريصين على تنفيذ تعاليمه.
رابعا، إنها ضاربة بجذورها فى عمق التاريخ، حتى إن بعض الباحثين اللغويين ذهب إلى أنها أول لغة عرفتها الإنسانية، وربما أول لغة نطق بها آدم عليه السلام.
خامسا، إنها لغة رقيقة خالية من تنافر الحروف تقريبا، فلا تجد فى كلماتها تجاورا لحروف الهاء والعين والقاف والجيم أو الخاء والعين، الأمر الذى جعلها محببة للسمع والنطق، وجعلها أيضا أهلا للانتشار بين بلدان العالم، فهناك لغات كثيرة تأثرت بالعربية مثل: الإنجليزية والفرنسية والهندية والأردية والتركية... إلخ.
إذاً اللغة العربية قوية بذاتها وفى ذاتها، وقابلة للبقاء بحكم مكانتها وقدسيتها، لكن نقطة ضعفها الحقيقية هى أمتها التى تتحدث بها، أمتها التى لم تعرف قيمة نزول القرآن باللغة العربية، وغضت الطرف عنها، وعما تتعرض له من تشويه وتحريف، أمتها التى قبلت دون سائر الأمم أن تتباهى بلغة غيرها وتتفنن فى تعزيزها ونشرها بين أبنائها، أمتها التى لا تملك ما يمكنها أن تعبر به عن نفسها، فلا هى أتقنت لغتها ولا هى أتقنت لغات الآخرين، لا هى اتسقت بتراثها وتاريخها وهويتها ولا هى حظيت باحترام الآخرين لحاضرها.
إن اللغة العربية لو كانت لغة الألمان لأصبح لها وضع آخر، لو كانت لغة الإنجليز لتناقلتها الدنيا مثلما تتناقل اللغة الإنجليزية، لو كانت لغة بلاد واق الواق لحظيت بما لم تحظَ به بين أبناء أمتها، إن اللغة العربية عظيمة لكنها تبحث عن أمة لا تهدرها ولا تهينها وتضعها فى مكانتها اللائقة بمقامها.