نبدأ علي بركة الله...
لو لم أؤمن بأن ربي هو الحق، لأقسمت بان الموت مُطلق علي الجميع، يا لهذا القرين الفضولي، مَن يُصر دوماً على زيارتك كُرهاً في ميعادٍ قلما كان من اختيارك، مثلما وجودك أيضاً أحسبه لم يكن من اختيارك، وربما تلك هي العِلة التي منعت الكثير من رسم بهجة ولو مًصطنعة تَقرُباً له عند لِقاءه...
يؤسفني ألا أجد تعريفاً وافياً لهذه الواقعة، ولأزيدكم من الديوان شِعراً، أنا لا أود معرفة تعريفة، وإن وددت فلن أسأل سوي صديقي الذي ألقي ببدنه من قِمَة ناطحة سحاب قريبة من ملجأه الخشبي في فجر الثالث من تشرين الثاني، وبالمناسبة كانت تلك اول حادثة تجاهل فيها صرخات والدته، فهو أحق بالسؤال عن الموت منكم، فكُل مفرداتكم لتعريف الموت ستكون واهنة، لن تستوعب مضمون الموت استيعابا ولن تُزلزل من سكراته صعاباً، فلن ينجم سوي تعريفاً وخيماً وبيلاً، فلا تعريف للموت أصيلاً.
فَهل المَوْت نِبراس رُشدٍ؟ أم هو رُمح هلاك؟ إذا كان خَيراً فَلِما نَخْشاه؟، وإنْ كَان شَراً فَلِما لَم يَستَثْنِي مِنا الأنْبِياء؟
رُبما شُغلت كثيراً تغيير منظوري للموت! ولعلي انتهيت بما يُعقل، أري اننا لا نخشى الموت في شيء! لا أحد يخشاه وربما لم يخشاه أحد قط! فإن استيقظت يوماً فأرشدتني نفسي لإحدى سُبل الموت التي لن تتطلب مني سوي التمدد على فراشي والاستماع للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن بصوت منخفض لأربعون ثانية لا أكثر وبعدها -بكل هدوء-سأتوقف كليا عن استهلاك حصتي من الاوكسجين؛ لكنت نفذت ذلك في مساء اليوم ذاته ولكن قبلها يجب ألا أعطي بالاً للدنيا أكثر من أي وقت مضى...
ما نخافه من الموت في الأصل ليس ذاته أو نتيجته، فليس بهما ما يدعوا للخوف بقدر ما بهما من عَبث، لأننا نعيش هذا الشعور يومياً ونَحمده بعد أن نستيقظ وخسائرنا معه لم تكن عظيمة، نعم أنا أتفهم ذلك؛ ياااه! ربما ستفتقد نَفْسِي الي جَسدي! ولمدة طويلة بعد الموت، وليتك تعلم أن هذا لا يعنيني، فنفسي لم تكن مخلصة لجسدي بشكل من الاشكال...
وانما ما نخافه حقاً من الموت هي مُقدماته ووسائله أو بمعني أصح كيف سنلاقيه! نحن لا نَخف سوي تلك اللحظات من إدراكنا للمحات المَوت حتى تُدركنا تفاصيله، ربما هي نفس الفترة من سماعنا لصوت طلقات البندقية وحتى تستقر أخر رصاصاتها في صدورنا وربما حتى نري تناثر بعض قطرات الدماء على أطراف اصابعنا، ويُذكرني هذا بتلك اللحظات البائسة التي لاقاها صديقي مُنذ أن سمح للجاذبية بإحتواء جسده من أعلي المبني فأفلتت قدمه اليمني أخر أمانيه في الحياة بثقة فريدة لتلحق بمصير قدمه اليسرى التي انزلقت من علي حافة المبني، إلي أن إرتطم سَاكناً في مُنتصف تقاطع الطُرق ولما لبث أن تَشققت أشلاء جسده طِباق تشقق الأرض بعدما تَلطخ الطريق بدماء خطيئته...
بعد تلك الثواني المعدودة التي ستمر عليك ببطء شديد وأنت مُعدم الحلية والارادة، أعدك بألا تشعر بخوف أو قلق على الاطلاق...
لولا تلك اللحظات المعدودة التي يصعب تخيلها وقد يؤلمني التعبير عنها بكلمات؛ لأقبل الناس الي الموت افواجاً كما يُقبل الكسالى الي النوم بعد غروب الشمس مُتناسين كُل الهموم، فما هو أسهل من توديعك لوالديك وتُغلق باب غرفتك مُسرعاً الي فراشك تسترجع ما رسخ من ذكريات حياته وتتبسم لتلك اللحظات التي صرت فيها أضحوكة أمام الجميع، وقد ترغب في مشاهدة فيلم قديم وانت تعلم ان النوم سيتملكك بعد مقدمته بدقائق كعادتك وليس من المفترض أن يُزعجك هذا حيث ستكون على تمام اليقين بأن تلك اخر مقدمة لفيلم ستراها في حياتك...
أنا لا أعرف ماذا ستري بعد ذلك ولست مُتأكِداً أنك حتى ستري! ولعلي لن أسامح صديقي لأنه لن يُخبرني بتلك التفاصيل الصغيرة، وأقصي حديثي لك كما سمعت من قبل على لِسان أحد المُتكلمين أن عليك بعد الموت إنتظار عـ... سَامحني! كِدتُ أن أكذِب عليك كعادتي، فقد نسيت أن ما سمعته لا يتجاوز الهُراء المِيتافيزيقي، فليس على الميت انتظار شيء... ليس عليه انتظار أي شيء... وربما انا لست أميناً في كتاباتي كما لم أكن يوماً، فقد نسيت إخبارك أيضاً أن السيدة التي صرخت من فوق ناطحة السحاب تِلك كانت... أُمِي.