نقلا عن الأخ مايكل بكني

استعملت في أثناء دراستي الجامعيَّة كلمة " التشفير" بكثافة للإشارة إلى عملية إخفاء معنى نصٍ ما، فلا يعود بالإمكان فهمه إلا لمن يعرف كيفية قراءته، وهذه عمليَّةٌ تبلغ من الأهمية الغاية في أنظمة الاتصالات الحديثة كلها. وصادفت غير مرَّةٍ كلمة "التَّعمية" للإِشارة إلى المفهوم نفسه، فكرهتها كرهاً شديداً، ولم أكتفِ بعدم استعمالها وحسب، ولكني حرَّضت زملاءً لي وأقراناً على ذلك أيضاً، وبقيت على أمري هذا لسنواتٍ حتى وقعت على مخطوطٍ للكندي عنوانه: "رسالة في المُعمَّى" حققه مجمع اللغة العربيَّة في دمشق، فقُلِبت قناعتي قلباً وما عدت أقبل إلا استعمال هذه الكلمة أو مرادفاتها.

//

والتَّعمية مصدر الفعل عمَّى أي أَخفى، وجاء في سورة القصص {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} أي خَفيت عنهم، وفي سورة هود {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي أُخفيت عنكم، وأورد لسان العرب ما يأتي تحت مادة عمي: "وعَمِيَ عليه الأَمْرُ: الْتَبَس؛ٍ. والتَّعْمِيَةُ: أَنْ تُعَمِّيَ على الإِنْسانِ شيئاً فتُلَبِّسَه عليه تَلْبِيساً"، فالكلمة عربيَّة من غير شكٍ. أمَّا كلمة شفَّر فهي على الوزن نفسه، أي فَعَّل، وأصلها من الجذر ش ف ر، وجاءت بمعنى منبت الشعر نَحو شُفر الجفن، وبمعنى الحافة نحو شُفر المرأة أي حافة ما يُستقبح ذكره، ووردت أيضاً بمعنى قلة المال (التشفير) والسِّكين العريضة (شَفرَة)، ولم تُفِد هذه الكلمة أو أيٌّ من مشتقاتها قطُّ معنى الإخفاء.

//

والغالب أن كلمة تشفير قد جاءت إلى العربيَّة مِن الأصل الإنكليزيِّ Cipher، وهي مأخوذةٌ عن اللاتينيَّة cifra الَّتي أخذت بدورها من العربيَّة "صفر"، والغالب أنها اقتبست عن طريق الأندلس لأنها ظهرت أولاً في لهجة قشتاليَّة قبل أن تُضاف إلى قاموس الكلمات اللاتينيَّة. والثَّابت تاريخيَّاً أن العالم المسيحيَّ في العصور الوُسطى استعمل نظام العدِّ الرُّومانيِّ، وهذا النِّظام لا صِفر فيه، واستعماله للعمليات الحسابيَّة أمرٌ غير مجدٍ، وانظر مثلاً كيف يكتب العدد 4398 في هذا النِّظام لتدرك ذلك (MMMMCCCXCVIII).

//

ولما أدرك الغربيُّون ذلك، هجروا نظام عدِّهم وتبنُّوا نظام العدِّ الَّذي طوَّره المُسلِمون، واستعملوا أرقامهم وهي (0,1,2,3 … 9) وهي ما تزال تُعرف حتَّى اليوم بالأرقام العربيَّة، ولتفهم هذه التسمية لك أن تعرف أن كلمة عربيٍّ استعملت لقرونٍ طويلة مرادفةً لكلمة مُسلِم، وكانت تحمل هذا المَعنى في بلدان غربيةٍ كثيرةٍ حتَّى مطلع القرن العشرين. ولما تعرَّف الغربيون على الصفر هالهم وجود عددٍ لا قِيمة له، فعدوه أمراً مُبهماً غير معروفٍ، ثم رَومَنُوه، أي كتبوه بالأحرف اللاتينيَّة، وجعلوا منه صفةً تشير إلى الإبهام أو الإخفاء ومنها تطوَّرت كلمة Cipher الإنكليزية كما ذكرنا.

//

والطريف بالأمر، أن هناك كلمة أجنبيَّة أُخرى تفيد المعنى نفسه، وتستعمل في أدبيات العلوم الغربية اليوم وهي Encryption، وأصل هذه الكلمة يونانيٌّ، وهو kryptos وتعني مخفيٌّ أو سريٌّ، وهو المعنى المُوافِق للكلمة العربيَّة "تعمية"، ومنها كلمة Crypt الإنكليزيَّة الَّتي تعني المَخبأ تحت الأرض أَو القبر.

//

فهل يَستوِي بعد هذا كُلِّه أن نستعمل كلمة التَّشفير المَنقولة عن أصلٍ أجنبيٍّ، ونهمل الأصل والأساس العربيَّ؟

//

الصُّورة لغلاف المخطوطة الَّتي حققها مجمع اللُّغة العربيَّة في دمشق.