القصة طويلة قليلاً
كان زاهر, متجهاً إلى البيت, بعد أن أنتهى دوامه في الجامعة, مشى مسافة طويلة, إلا أن تفاجأ بحاجز طيار أمامه, أبطء في مشيته, و جهز هويته, لأن العسكري غالباً يكون متململاً و لا يحب الانتظار, وصل إلى الحاجز و شاهد العديد من الشباب قد اصطفوا خلف بعض, وقد كبلت أيديهم, ظن أنهم مطلوبين لأمور سياسية أو تشابه أسماء أو مطلوبين لأحد فروع الأمن, اعطى العسكري هويته, نظر العسكري في الهوية و ركز نظره على خانة العمر, ثم نظر في وجهه, وسأله نفس السؤال الغبي الذي يسأله أي عسكري على الحواجز, أنت زاهر؟,"نعم أنا زاهر" "أنت مطلوب لخدمة العلم" " لكن يا سيدي أنا مؤجل دراسياً" و لم يكد زاهر يخرج الورقة التي تثبت أنه مؤجل دراسياً إلى كان الضابط قد أمسك بمعصميه بشدة و قيدهما و دفعه و هو يصرخ فيه, "قف مع هؤلاء الحمير, مؤجل دراسياً, الوطن أهم من العلم", وقف في مؤخرة الصف و قد رأى أمامه ما يزيد عن عشرين شاباً, للدقة ليسوا شباباً جداً فهناك من بلغ الأربعين بينهم, استمر توقيف الناس و "سوقهم" إلى خدمة العلم كما ينص الدستور, الذي لا يطبق فيه شيء إلا هذا القانون وليس على الكل, أنما يطبق على الذين لا يملكون واسطة. فكر زاهر كيف ستتحمل أمه هذا النبأ الآن لابد أنها ستنهار, فمنذ أسبوعين, كان أخوه, ماهر قد التحق في صفوف الثوار, ليقاتل دفاعاً عن الحرية و عن الناس البريئة, ترك الجامعة و هرب مع مجموعة من الشباب الآخرين في الحي, لم يستمع لتوسلات أمه, فقد قال لها بلغة لا تقبل النقاش"أن أذهب و تفقديني أنا خير من أن أبقى و أفقد أنا وطني, و على كل حال سأترك زاهر إلى جانبك, فهو لم يقتنع بالمجيء معي" كيف ستتحمل صدمتين متواليتين, لابد من أنها ستنجلط و تفقد عقلها, فلم يبقى في البيت الآن إلا أختهما الصغيرة حلا, تذكر زاهر الحوار الذي دار بينه و بين أخيه قبل ذهابه"تعال معي نقاتل من أجل حرية بلادنا, هل تصدق أن هناك قانون يحميك هنا, غداً عندما يأخذونك من البيت, ذليلاً إلى خدمة العلم, ستتذكر كلامي","أنا مؤجل دراسياً, ولن يستطيع أحد أخذي إلى أي مكان, و من ثم أمك لمن ستتركها؟" " يبدو أنك لا تعرف القانون جيداً, فالقانون الوحيد في هذا البلد هو أنه ليس هناك قانون", عاد زاهر إلى وعيه على صوت صراخ العسكري على أحد الموقوفين"لا يهم أن تكون وحيداً, فالوطن وحيد و يحتاج حمايتك أكثر من أمك و أبيك"و انصاع المسكين تحت الصراخ, و أبوه يستجدي الضابط و يخر عند قدميه يقبلهما بأن لا يأخذ ابنه الوحيد, لكن الضابط استمر دون أي هوادة بالاعتقال حتى تجاوز عدد المعتقلين المئة, صعدوا جميعاً إلى الباص, و الضابط ما زال يصرخ بهم واحداً تلو الآخر, لكي يعجلوا بالصعود.
في القصير, أحد القرى التابعة لمدينة حمص, كان مجموعة من من يسمون أنفسهم بالثوار, يتحلقون حول طاولة قد وضع عليها خريطة مكبرة لمدينة حمص, في أحد البيوت المتواضعة, و كان من بينهم قائد المجموعة و يدعى "ابا الفضل" كان له ذقن حليقة و شعر قصير و ثياب عسكرية, وضع على صدره علم الثورة السورية, و إلى جانبه العديد من الشباب الذين كان من المفترض بهم أن يكونوا في جامعاتهم, و من بينهم ماهر و قد أخذ ينصت لشرح قائد الفرقة, و كيف أنهم غداً سيداهمون أحد المعسكرات القريبة التابعة للجيش, كانت الخطة محكمة, و لا تشوبها شائبة من وجهة نظر ماهر, كان التطويق جيداً و خطوط الإمداد مدروسة, كانوا سيهاجمون ببنادق عادية, بسيطة, لكنهم من المتوقع أن يغنموا عشر دبابات و العديد من الأسلحة و الذخيرة التي ستمدهم بالقوة, للاستمرار بهجماتهم, و لكي تزداد قوة و يستطيعوا ضرب أماكن أكبر و أهم, قسمهم قائد الفرقة إلى مجموعات و أعلمهم مكانهم.
في الباص تعرف زاهر على أحد الشباب الذين كان يراهم في الجامعة, و تكلموا مع بعضهم في هموم الحياة و بالكارثة التي حلت بهم, و تعاهدوا على الدفاع عن بعضهم, و إبلاغ كل واحد أهل الآخر في حال وفاته, طبعاً إخبار أهل الميت أن ابنهم قد توفى معروف عظيم في هذه الأيام فالاحتمالات كثيرة, الخطف, الموت, في أحد فروع الأمن, الخيار الأصعب, " الله أعلم أين هو؟", عندما وصلوا إلى الثكنة العسكرية الواقعة على أحد أطراف مدينة حمص, نزلوا و استقروا في صالة واسعة تحتوي على صف من الأسرة ذات الطابقين, أعطوهم اللباس العسكري, و أعطوهم البنادق, و صرخ فيهم الضابط"اليوم مساءً لديكم تدريب حي, استعدوا", لم يستطع أغلبهم حمل البندقية لمدة تتجاوز الدقيقة, فقد كانت ثقيلة على سواعدهم الغضة التي كانت معتادة على حمل الكتب و الأوراق, جلس كل منهم على سريره و قد شردت عقول كل واحد منهم في مكان, فالأربعيني يفكر في عائلته و الشاب يفكر في أمه و أبيه, هكذا تدمرت كل أحلامهم الوردية, في التخرج و العمل بوظيفة محترمة و تأسيس عائلة بلمح البصر, بل بوقفة على الحاجز.
في القصير حيث كانت المجموعة تجهز أسلحتها فذاك ينظف سلاحه و ذاك يضع الرصاص به, و القائد يدور عليهم واحد واحد و يطمئن عليهم ويعلمهم كيفية التعامل مع السلاح, فهم لم يتدربوا منذ قدموا إلى هنا إلا ساعات قليلة لم تكن كافية لإعطائهم الخبرة اللازمة, لكن مع كل هذا كان القائد متفائلاً بالنصر في هذا الحصار الذي خطط له بشكل جيد, رن هاتف القائد, نظر سريعاً إلى الشاشة, و رد دون أن يتكلم, بل أصغى للطرف الأخر ثم أغلق الخط, صاح بعدها صيحة أوقفت الجميع, البشرى يا رجال, ستنضم إلينا جماعة أبي الفداء, النصر مؤكد الآن, هيا اعملوا جيداً لا أريد أي خطأ.
عندما حل المساء في الثكنة العسكرية, ركب زاهر و رفيقه و من كان معهم في سيارات عسكرية هذه المرة و في سيارة عسكرية أخرى ركب الضابط و مجموعة أخر من الجنود المدربين, و انطلقوا مسرعين إلى مركز المدينة, لم يكن زاهر و لا رفيقه شاكر يعرف إلى أ]ن هم ذاهبون و أين ستكون هذه التدريبات التي قيل لهم عنها صباحاً, لكنهم يعرفون بدون شك أن الأيام التالية في حياتهم لن تحمل لهم الخير أبداً, فما من أحد ذهب إلى العسكرية و عاد, بتاتاً و إن عاد قلة فقد عادوا بدون أحد أطرافهم أو قد أصيبوا بالعجز فما عاد الوطن بحاجتهم, فأعادوهم إلى أهلهم, أي وطن هذا الذي يريدنا أن نقدم له دون أن يقدم لنا. وقفت السيارات بقرب جامع الرئيس في حي الوعر, و ترجل كل من في السيارات بمن فيهم الضابط و زبانيته, و قال لهم آمراً"خلف الجامع كما تسمعون هناك مظاهرة, نريد أن ندربكم عملياً على أهداف حية, و نرى النتائج, لا أريد أي تقصير, اطلقوا ما استطعتم من الرصاص, المهم أن تتدربوا جيداً و تفضوا المظاهرة, ز من لا يطلق النار, سيكون قد حفر قبره بيده, و سأقتله أنا", "نظروا ببعضهم, مصدومين, مشلولين لا يدرون ماذا يفعلون, أي مصيبة نزلت على رأسهم, ربما يكون هذا أصعب خيار مر عليهم في حياتهم كلها, إما أن يقتلوا أو يقتلوا و كلاهما أمرين أحلاهما مر,"هيا, أٍمعوني زمجرة رصاصاتكم, و أنا سأشاهدكم من هنا", تقدموا على مضض و ببطء شديد, و عندما أصبحت المظاهرة على مرأى من أعينهم, بدأ بعضهم بإطلاق النار, و تجرأ أحدهم على وضع البندقية أرضاً لكنه رقد إلى جانبها فوراً, فقد جاءته الطلقة من مسدس الضابط خلفه, فحث هذا الأمر الباقين على إطلاق المزيد من الرصاص, أما زاهرو صديقه, فقد اتفقا على إطلاق النار في السماء إلى الأعلى قليلاً لكي لا يكونوا سبباً في القتل, أما أكثرهم جرأ فقد كان رجل في الأربعينيات من العمر و على ما يبدوا قد يأس من الأمر, و عرف أنه إن كانت البداية هكذا فكيف ستكون الخاتمة, فالتفت سريعاً و أطلق الرصاص على أحد جنود الضابط فأصابه بعدة طلقات, قتلته, و سرعان ما ردوها له بالمثل فأردته قتيلاً أيضاً. انفضت المظاهرة بنجاح و رجعوا إلى الثكنة مخلفين ورائهم مقتل و إصابة العديد من المتظاهرين و مقتل ذلك الأربعيني و العسكري الآخر, عندما عادوا, زعق الضابط زعقة و هو يستشيط غضباً و عيونه كلون الدم"كل من يفكر بخيانة الدولة, سيكون مصيره كمصير هؤلاء الخونة و ذاك الكلب العجوز". انصرف الضابط, انصرفوا أيضاً للنوم, لكن أي نوم سيخلدون إليه و هم منذ قليل كانوا يقتلون أبناء بلدهم, نظر زاهر و شاكر إلى بعضهما معناها " القادم أعظم"
في الصباح انطلق, قائد الكتيبة و رجاله و من بينهم ماهر, إلى منطقة اتفقوا أن يلتقوا بها مع جماعة أبي الفداء, التقت المجموعتان و تكلم القائدان قليلاً عن الخطة التي سيتم تطبيقها, و أصبحوا كالجيش الصغير, و كان لمجموعة أبي الفداء مدرعة صغيرة تدعمهم, انطلقوا قاصدين الثكنة ليحاصروها, ساروا مسافة ليست بالقصيرة, حتى خارت قوى البعض, لكن ماهر كان قد تعود على هذا و لديه خبرة بالسلاح من العسكرية التي خدمها قبل أربع سنوات, وصلوا إلى الثكنة حاوطوا أطرافها,مداخلها و مخارجها, و اتخذ بعض القناصين مكانهم لكي يقتلوا أي داخل و خارج من أي مبنى داخل الثكنة, أمسك أبو الفضل بقذيفة و قرأ الآية"وما رميت إذ رميت و لكن الله رمى" و أطلق قذيفتاً على أحد طائرات الهوليكبتر الوحيدة التي كانت في الداخل خوفاً من أن يفروا بها, حاول الضابط الانتقال إلى المبنى الآخر الذي يجتمع فيه البقية ليعطيهم التعليمات’ لكن طلقة القناص جاءت حاسمة و أنهت رحلته قبل أن تبدأ, بقيت الثكنة دون ضابط أو قائد.
في الثكنة عندما انفجرت المروحية استفاق الجميع مرعوباً فزعاً, و أمسكوا جميعاً بأسلحتهم, التي لم يعتد أغلبهم عليها بعد, حاول أحدهم الخروج من الباب لكنه لقي حتفه فوراً, عرف الجميع أنه لا فرار لهم, فهم محاصرون, حاروا جميعاً ماذا يفعلون, لكن الشيء الوحيد الذي اتفقوا عليه أن عليهم الانبطاح خوفاً من أن يتم قنصهم من النوافذ. في المبنى الآخر المجاور للمبنى الذي يتواجد فيه زاهر كان العساكر المدربون, يتفقون على خطة للخروج من المبنى إلى الساحة, و الوصول من الساحة إلى أحد الدبابات أو مبنى الذخائر, انقسموا إلى أربع مجموعات, مجموعتين من البوابة الأمامية ستنطلق إلى مخازن الذخيرة و الدبابات, و اثنتين من الخلفية ستخرج العساكر الجدد و ترشدهم لتشركهم في القتال, انطلقوا جميعاً, و لم تكد المجموعتان الأماميتان تخرجان حتى نالهما إطلاق النار الكثيف و قضى على معظمهم, و أما من نجا فقد احتمى, خلف بعض المتاريس الموجودة من أجل التدريب, و بدؤوا بتبادل إطلاق النار, و أما المجموعتين الخلفيتين فقد حالف أغلبها الحظ بالوصول إلى مبنى العساكر الجدد,و بدؤوا بإرشاد العساكر, فقال أعلاهم رتبة" ستنقسمون لمجموعات, سيخرج نصفنا من الأمام و تساعدون رفاقنا في الوصول إلى الأسلحة, و سيخرج نصفنا من الخلف لنخرج من بوابة الثكنة ة نلتف حوله و نقضي عليهم بوضعهم بين فكي كماشة, و بسرعة كبيرة انقسموا لمجموعتين, خرجوا مع بعضهم, و بدأت الجبهة الأمامية بالاشتباك المباشر مع محاصريهم, لكنهم لم يستطيعوا إصابة أي أحد لأنهم لا يعرفون استخدام السلاح, و أصيب أغلبهم خلال لحظات, و أما بالجبهة الخلفية التي كان من ضمنها زاهر و شاكر الذين تعاهدا على أن لا يفترقا, فقد قاوموا بشراسة و استطاعوا بمساعدة الضباط الخروج من البوابة و بدؤوا بالإلتفاف على جماعتي أبي الفداء و أبي الفضل.
صدر من جهاز أبي الفضل اللاسلكي نداء استغاثة من الطرف الخلفي "إنهم مدربون و من بينهم ضباط, نحتاج دعم" "علم سنرسل لكم الدعم" نده أبو الفضل إلى ماهر و أمره بالتوجه مع بعض الرجال ذوي المراس إلى الطرف الخلفي لدعمه, و ما كان من ماهر إلا أن لبى طلب أبا الفضل و اختار بعضاً من الرجال و ذهبوا للدعم, أمرهم ماهر بالتوزع على جميع الاتجاهات, فأطاعوا
انتشر الضباط و من بقي من العساكر و منهم زاهر و شاكر, في الأحراش المحيطة بالثكنة, و سمع اطلاق نار قريب في أوقات متفرقة, اتسعت المسافة بينهم و سقط البعض بين جريح و ميت.
في نفس الوقت كان أبو الفضل و جماعته يقاومون من الأمام فقد بقي بعض العساكر يقاومون, و ماهر و جماعته التي ذهبت للدعم, قد تفرقت, انبطح ماهر و قد لحظ أحد الجنود من بعيد, أطلق عليه فأصابه, تقدم قليلاً ليلحظ الآخر و يصيبه, أصاب العديد حتى نفذ ما بجعبته من طلقات, كان يفصل بينه و بين أول عسكري أصابه أمتار قليلة اقترب منه و أخذ سلاحه, تقدم قليلاً لجثة الأخر الذي أًصابه, لكنه صدم مما رأى, فقد كان أخاه زاهر, و قد استقرت الرصاصة في صدره, أيعقل أن يكون قد أطلق النار على أخيه, رمى السلاح من يده, و ارتمى على ركبتيه على الأرض, و أمسك أخاه من كتفيه و هزه لكي يفيق من غيبوبته, بالكاد انشقت عينيه و رأى أخاه أمامه, ابتسم ابتسامة جميلاً و قال له بصعوبة "أعرف" و رفع زاهر يده الملطخة بالدم, و مسح بها على خد أخيه الذي سالت الدموع من عينيه كالأنهار, لم يستطع ماهر الكلام, ماذا يقول له "سامحني يا أخي أنا قتلتك؟" كيف سينظر بوجه أمه عندما يعود هل يقول لها قتلت أخي دون أن أدري, أي ثمن للحرية سيدفع الآن, لعن الحرية و من طالب بالحرية, و لعن الساعة التي خرج فيها للدفاع عن الحرية, اكتفى بالبكاء و شهق أخوه شهقة يستجمع فيها الهواء فضمه إلى صدره ضمة كاد يخنقه فيها أكثر ما هو مختنق, كل هذا يحدث و الرصاص يأز إلى جانبه أزاً لكنه لم يكن يحس بشيء فقد عطلت كل حواسه, شلت فما حدث معه يشل الأعصاب و الحواس ما حدث معه للتو يفوق أي عذاب, لم يكن يعلم ما الذي يمكن أن يريحه من العذاب الذي هو فيه, لكن الطلقات الثلاث التي اخترقت ظهره أراحته قليلاً هو بالكاد شعر بها, شعر بها وهي تطرق على جلد و تستأذن منه بالخول, فسمح لها, لأنه لا يريد الحياة, يريد أن تصعد روحه و روح أخاه السماء سوياً فقد خشي من أن يبقى على قيد الحياة و أخاه قد لفه الكفن, نظر في وجه أخيه للمرة الأخيرة وبادله أخوه النظرة, ابتسما لبعض و رفعا أكفهما لبعض و قد غطتهما الدماء. و ارتخت أجفانهما سوياً...
بغض النظر عن موت زاهر و أخيه فأنت الآن أنهيت قراءة 2119 كلمة
التعليقات