إعتاد ان يرى وقوف الناس امامه يومياً فى أدب جم واستقامه....يدلفون لمجلسه فى تواضع شديد..يتمتمون بخافت الكلمات التى لا تكاد تُسمع من فرط احترامهم لهيبته...ينحنون له إجلالاً...يُقسِم لنفسه انه يكاد يرى جباههم تمس الأرض فى اليوم مراتٍ تعظيماً له..يطلبون مايريدون فى حضرته وينصرفون خشوعاً متهامسون، هكذا يقضى يومه فى استقبال من أتى متضرعاً ذو مظلمة يريد عرضها او مطلب ينشد تحقيقه.

ظل هكذا سنين...شعر بأن وجوده فى مركزه قدرىِ وان استمراره أبدىِ....ظن ان إحترام الناس له ووقوفهم بين يديه وفوداً خاضعين قد صِيغ لذاته...فمن غيره يستقبلهم...من غيره يستمع.. يشملهم بعين العطف ليل نهار...عصراً او فجراً ولا يمتنع.

ظل هكذا حتى رأى من قدِم اليه متجرئاً...ينزعه من مكانه نزعاً...يضعه جانباً ويُنصِّب مكانه من هو أصغر منه سناً واكثر شباباً...وما زاد من ألمه واندهاشه أنه رأى نفس الجموع تقف بنفس التذلل و الخضوع امام بديله..بهكذا سرعه؟!...لم يكترث أحد لغيابه عن موقعه...لاقى منهم أدبارهم وهم متراصون فى إحترام ومهابة يعرضون مطالبهم ويرفعون مظالمهم للوافد الجديد...تماماً كما كانوا يفعلون امامه...لم يكونوا فى حاجةٍ له إذاً...بل كانوا يحتاجون موقعه...مركزه ومكانته!

لم يكن يتخيل أن يأتى عليه ذاك اليوم الذى يسترجع فيه حقيقته....حقيقته التى نسيها منذ زمن بعيد...مُذ جاؤا به الى هنا منذ عشرين عاما...نسيها بعد ما لاقى من رعاياه المحبين المُجلين...نعم لقد نسى....نسى انه مجرد "مِحرابٌ خشبى"....نعم...مِحرابٌ من خشب وُضِع فى اتجاه القبله داخل مسجد ليس اكثر...وهو الآن مُلقى بمؤخرة المسجد ينتظر نقله خارجاً ليواجه مصيره وقد استبدلوه بآخر جديد...نسى ان من كانوا يقصدونه يومياً ماهُم الا مصلون فى بيت من بيوت الله...نسى أن وقوفهم امامه فى خشوع...صلاه، وأن إنحناءهم امامه...ركوع لمولاهم ومولاه، وأن ملامسة جباههم الأرض أمامه...سجود، وأن تضرعهم وتمتمتهم ومظالمهم وطلباتهم ...دعاء مشهود.

نعم الآن تَذَكر...هو خادم فى موضعه يؤدى دوره ليس إلا...هو ليس مُخَلَد هنا...هو ليس المتحكم ولا المسيطر...هو ليس المعطى او المانع...ما هو إلا موظف سيأتى عليه يوم ليستبدلوه بغيره...أحدث وافضل...وقد حدث! 

لم يُخرجه من دائرة استغراقه وتأمله إلا مجموعة من الرجال مقتربين تجاهه وقد عقدوا العزم على حمله خارج المسجد ليضعوه على عربة نقل متهالكه وقد سمع احدهم يقول لصاحبه فى عجل مشيراً إليه فى إزدراء: 

- متنساش...انا اتفقت مع عم صالح يدبّق لنا حتتين خشب من البتاع ده نرقّع بيهم باب الميضه اللى خِرب.