كان جالساً شاردأ في حديثه مع نفسه ومنصتاً لسماعات أذنه، فهذا المكان وسيلته المعتادة للهروب من ضجيج العالم الصاخب، حتي هذا المقعد أصبح مكانه الخاص، كأن روحه ارتبطت به ولا تعرف غيره.

دخلت وهو شارداً لم يلاحظها ، هو أساساً لا يعرفها، سمة أشخاص اعتادوا الغربة حينما تجرد العالم من كل ملذاتهم، لم تجد مكاناً غير المقعد المواجه له ، على الرغم من أن معظم الأماكن كانت خالية، لا أدري قد تكون قوانين الفيزياء تدخلت لتجذب شخصين تشابهت طباعهم كثيرا وهم لا يعرفون بعضهم البعض.

نظر لها نظرة سريعة بدون قصد في نفس اللحظة التي فعلت فيها الأمر ذاته،عاد لقهوته وعادت هي للقراءة بلا اكتراثٍ منهما، بعدها بدقيقة وجد نفسه يفعل الأمر ذاته مرة أخري وحينما تبادله النظرات يطأطأ رأسه خجلا.

عادة ما تنجذب الشخصيات الفريدة لبعضها البعض لكنهم يظهرون بعض التحفظ النابع عن شخصياتهم؛ تحفظاً لبقاً يليق بكليهما.

(كانت وسامته تنبع من مظهره الكلاسيكي الجذاب (ولتذهب الموضة الحديثة إلى الجحيم

(أما هي فهيئتها كانت تحاكي الأميرات البسيطات، مظهرها راحة وشفاء للعيون (ولتذهب الموضة الحديثة الى الجحيم ثانيةً.

ابتسم بلباقة وهو ينظر إليها؛ ابتسمت بخجل ثم دفنت رأسها بين صفحات كتابها، أخذ حذره خشية أن يصبح الأمر عبثيا فأخذ يراقيها بحذر وبملامح متزنة -هؤلاء يجيدون التصرف في مثل هذة المواقف، لا يعرفون العفوية ولا العبث-

لم يكن انجذابهم محض إعجاب ولا بداعي الفضول ، هم أنفسهم لا يدرون لما!، قد تكون لقوانين الجاذبية يد في ذلك.

ربما!

لمح ابتسامتها بين طيات الكتاب، فأدرك أنه لا بأس من أخذ خطوة أقرب، قام معدلاً معطفه قامت بحركة خفيفة أثناء جلوسها أعطته بعض الطمأنينة قبل الاقتراب ، هي أيضا تجيد التعامل بلباقة.

اقترب أكثر؛ وقف أمامها واضعاً يده اليسرى خلف ظهره لإضفاء بعض الوقار لذاته ، ألقى السلام ؛ ردت عليه وهي تومأ برأسها.

  • هو

  • هي

 

  • أعتذر إن كنت أزعجتك سيدتي أو قطعت قراءتك

  • لا بأس، أنهيت جزءاً لا بأس به الآن، يمكنك الجلوس إن أردت

ابتسم وفك زر معطفه وجلس بثقة متحفظة

  • صدقاً لا أود إزعاجك، فقط أردت على غير عادتي أشارك قهوتي مع أول شخص يقطع شرودي، آتي إلى هنا يومياً منذ فترة ولم يحدث معي هذا الا اليوم، أتمنى تتقبلين صدقي ودواعي فضولي أيضاً ولا يُساء فهمي.

  • أعتذر أنا على قطع شرودك، أتفهم سيادتك جيداً ، أعتقد أننا لسنا في حلٍ لإساءة الفهم ، وعلى كل حال

Pleased to meet you, you are welcomed

دقائق من الصمت، لم يكن خيارهما بل هو ما تفعله فيروز دوماً بـ أصدقائها؛ من تربطهم علاقة مختلفة بصوتها، من آثروا مرافقة شخصاً لم يلمسوه قط على ضجيج المحيطين.

"شو بدي دور لشو عم دور على غيره

(في ناس كتير لكن بيصير ما في غيره" (صباح ومسا

لابد من قطع هذا الصمت، لا أريد تنبؤ عواقب كلماتك يا فيروز أمام هذه الجميلة...جميلة حد صوتك

*هل تحبين فيروز

-بالقدر الذي تحبها به

*وما أدراكِ بقدر حبي لها

-شرودك، انتباهك لصوتها كأن شخصاً ما ناداك، أراهن أن فيروز بالنسبة لك أكثر من مجرد سيدة عتيقة تغني

*أحبها الحب الذي يجهله الجميع، لذا فضلتها عنهم

-وأنا فضلتها عن ذاك المستحدث الذي حاول مواعدتي مؤخرا

فاجأته بسرعة ردها، شيئان قد ينموا عن أنك تقلل من تقدير الشخص الذي أمامك؛ أن ترد على موقف يحكيه بموقف آخر أو تحاول إظهار تفوقك عليه في هذا الموقف.

شعرت بما بدر منها فأعادت الأمور لطبيعتها سريعاً

-وما الجدوى من الجلوس مع ضجيجهم، مجلس صامت يعج بالهواتف كأنها هم ، وحينما يسيطر أسلوب وألفاظ الحديث العصرية على اجتماعاتهم أشعر بقدر من البذاءة والسوقية ينحدر من كل صوت 

  • وما المشكلة هنا

-مشكلتي أني أُستدرج للتحدث مثلهم.

  • وهل يلحظون ذلك.

-أعتقد لا

*إذا لا توجد مشكلة، كونك تختلفين عنهم أنتِ فقط من تفكرين بهذا، هذا ما يحمله الهواء المحيط بنا يا عزيزتي ، ما سيلحظ حقاً هو حينما تتحدثين بسجيتك أنت ،حين تكونين أنت، الغريب حقاً أنهم يشعرون بالإهانة حينها!

قالت بابتسامة ساخرة

-يالسخرية الواقع!،أتدري ما يؤلمني أني آخر كل يوم أسترجع كل يومي وأحزن على طريقتي في التعامل بعض الأحيان.

*وها أنت ثانيةً تثبتين أنك تختلفين حقاً عنهم، هم لا يفعلون هذا، السائد ألا أحد يحاسب نفسه آخر كل يوم، لا أحد يحاول إصلاح ذاته والانتباه لما بدر منه سابقاً.

  • عالمٌ غريب

  • لكنه جميل، بكل ما فيه من متناقضات فهو رائع حقاً، هذه الحياة اختبار للجميع ولا يعقل أن يختبر المرء بما يحب -أتريدين قتل متعة الحرب –

قالها مازحاً فارتسم الحب على شفتيها فعل ابتسامة قاتله.

  • هل لاحظتِ ضحكتكِ من قبل

-لا أتذكر

  • ولهذا لا تتذكرين شيئاً رائعاً في الحياة

-ها قد رأيت الجمال بعينه، رجلاً كلاسيكياً نبيلاً يجلس أمامي ويغازلني.

  • لم أعتاد تجاهل شيء جميل

  • وما الجمال عندكم

  • الجمال هو التصوف في حب الحياة، هو كل شيء يثير خفقان القلب وأنا أستمتع بذلك الألم الناتج عنه، هو أن أناجي الخالق بلا طلب ،و أن أكسر حاجز وحدتي بأحد يقاسمني حياتي وطباعي النادرة.

-من أين لكم بكل هذا

*من تقلبات الحياة يا عزيزتي، والشغف والسعي، وتحويل الحياة لساحة حرب بسيوف الحب والسلام ، وبعدم الاكتراث ، وهذا الأهم ، وبالإيمان بذاتك وأنها كنزٌ سمين لا يُمتلك إلا مرة واحدة في العمر.

  • تجري الحياة بما لا نشتهي

  • وهنا مسألة أخري، لا يتحقق إيمانٌ في شخص يرى غاياته أفضل من إرادة ربه.

  • غلبتني يا هذا، عادة ما يكون للمختلفين طقوسهم الفريدة والغريبة أيضاً ، من يتخذ من الخيال صديقاً ومن يرقص مع الخيال إن تطلب الأمر ، هل أنت ممن يرقص مع الخيال ؛ دعني أًقر بغرابة السؤال أولاً.

  • تروق لي الأسئلة الغريبة، أجيد رقة التانغو لكني لم أجربها مع أحد قط وقد لا تتفاجئي أني لي مع الخيال حياة أخري.

-عجباً لشخص مثلك لم يجربها، شخصية مفعمة بالحياة فكيف لو جربت ذلك.

*حقيقةً لم أجربه لأنني لم أجد من يستحق ولن أهين هذه الجلسة الاستثنائية، وكل لبيب بالإشارة

-يفهم، حسناً يمكنني المساعدة في هذا الأمر.

قام هادئاً وقد ارتسمت على هيئته كل معاني النُبل ومد يده إليها "هل تسمحين لي"

ابتسمت وأشارت برأسها بإيجاب، هناك حيث المنصة الخالية والموسيقي التي تفي بالغرض يزينها صوت اندي ويليام

 

“Speak softly, love and hold me warm against your heart

I feel your words; the tender trembling moments start”

لم يشاركهم أحد هذه الرقصة، وصدقاً لا ينتظر من هؤلاء الفارغين المغرمين ذلك.

*شكراً، لم أتوقع أني أفتقد شيئاً كهذا؛ أو شخصاً هكذا.

انتهت الرقصة مع توقف الموسيقى

-على الرحب والسعة، صدقاً كلانا وجد شيئاً يفتقده الليلة ولكن يجب أن أرحل الآن ؛ لدي أطفال ينتظرونني.

لم يستطع إخفاء دهشته مما قيل، لتسرع في توضيح الأمر أكثر

-اعتدت زيارة دار رعاية الأطفال كل يومين، لا تظن أني وحيدة فلدي عالمي الجميل معهم.

عادت ابتسامته من وقع الرد ليخرج بطاقة من جيبه

*هذا عنواني؛ أنتظر رسالة بريدية لأطمئن عليكِ وعلى الأطفال أيضا، حتى نلتقي هنا مجدداً أو في دار الأطفال، تحمست لزيارتها.

سحبت من معطفه قلمه بحركة زادت من خفقان قلبه ، قلبت البطاقة ودونت عنوانها وعنوان الدار.

-حفظت عنوانك جيداً، لدي ذاكرة قوية ستتذكر جيداً أنك وعدتني بزيارة الأطفال، هذا عنواني وعنوان الدار ، كن حذراً ألا ترسل الرسائل إلى عنوان الدار

بدلاً من المنزل.

ضحك؛ بل ضحكا حتى علا صوتهما قليلا، ألقت على قلبه السلام ثم رحلت ، لاحقها بعينيه حتى اختفت ، عاد لمكانه يتأمل خطها على البطاقة وكتابها الذي نسته أو ربما تناسته عمدا ، عندما وجد مكتوباً في بداية الصفحة الثانية الخالية "وصف الرجل الذي في الصفحة المائة وجدته اليوم وهاهو جالس على بعد خطوات مني"

توجة للصفحة المائة وأخذ يقرأ وابتسامته تتسع كلما تمادي في القراءة.

*أتمني أن تجديني في هذه الصفات كما وجدتك فريدة أيتها الغريبة

الفاتنة.

وماذا بعد؟! هل تظنون الحكاية انتهت هنا! أو أني سأكون فظاً وأخبركم أن كل هذا كان حُلماً جميلا؟! لا أظن أني سأفعل ذلك

.ولكن سأترك لكم تصور باقي السيناريو....