بسم الله الرحمن الرحيم

الجاذبية الكمية

اذا أردنا أن نأخذ فكرة سريعة عن الجاذبية الكمية من ناحية شبه تقنية مبسطة يجب ان نقوم اولا بتحليل مفهومي لهذا المصطلح " الجاذبية الكمية " ، فالشق الأول " الجاذبية " المقصود به النظرية النسبية العامة و التى تعمل على وصف الجاذبية كتأثير للتشوهات التى تحدث بفعل المادة (الطاقة) في نسيج الزمكان، عليه فان الجاذبية تظهر في هذه النظرية كخاصية لهندسة الفضاء و الوقت (المكان و الزمان) ، حيث يتم وصف كل شيء بلغة الهندسة التفاضلية "الهندسة الريمانية" و تكتب الطبيعة بلغة الكميات الممتدة "Tensors" كما يقال، بصورة عامة تختصر كل الصورة في معادلة اينشتاين للمجال، حيث نجد الطرف الأيمن من المعادلة متغير هندسي متعلق بشكل نسيج الزمكان ، اي يصف مقدار الانحناء ، بينما الجانب الأيسر من المعادلة يتضمن متغيرات فيزيائية متمثلا في ممتد "الطاقة- الاندفاع" و الذي يمثل كثافة المادة(الطاقة) المتمركز في الفضاء بالاضافة الى ثوابت طبيعية مثل ثابت الجذب العام و سرعة الضوء و الثابت الرياضة "باي" . باستخدام هذه المعادلة (او المعادلات) يمكن التنبؤ بمسار الكواكب و ايضا التنبؤ بوجود الثقوب السوداء و بناء نماذج مختلفة للكون.

الشق الثاني " الكمية " يتعلق باخضاع الشق الاول لكي يتبع النظرية الكمية التى تصف العالم في (أصغر) ادنى مستوياته ، حيث كل شيء يتم وصفه بلغة الاحتمالات، ففي العالم الكمومي كل ما علينا فعله هو كتابة الدالة الموجية (دالة الحالة) و التي تحوي كل المعلومات المتعلقة بالنظام الفيزيائي الذي يتم دراسته ، وبمعرفة حالة النظام عند لحظة معينة(معرفة احتمالية متذبذبة) يمكن بعد ذلك و صف سلوك النظام الى حد ما و تطوره الزمني(على حسب طبيعة النظام المراد دراسته) باستخدام معادلة شرودنجر.

الأن يمكن تفسير معنى الجاذبية الكمية بأنها مجموعة من النظريات الفيزيائية و الاساليب الرياضية التى تحاول ان تخضع النسبية العامة لمفاهيم ميكانيكا الكم ، بمعنى محاولة فهم سلوك الجاذبية في مستويات صغيرة من الزمكان(طول بلانك). معظم هذه المحاولات (النظريات المقترحة) مبنية على فرضية ان هناك حد ادنى (كمة) للزمكان في المستويات الصغروية (مستوى طول بلانك)، وهذه الفرضية تتعارض في نفس الوقت مع اهم شروط و نتائج النسبية العامة وهي ان الزمكان عبارة عن متصل فيزيائي.و التعارض الثاني و الخطير يتمثل في السلوك المتهيج(الفوضوي و المتذبذب) لنسيج الزمكان عند المسافات الصغروية حتى في حالة غياب المادة (الطاقة) من وجهة النظر الكمومية، في حين ان الزمكان يصبح مسطح (إقليدي) و مستقر في حالة غياب المادة من وجهة نظر النسبية العامة. اذا الصعوبات في وجه هذه النظريات أكبر من كونها صعوبات رياضية، مع التوضيح و الاشارة الى ان المشاكل الرياضية ايضا موجودة ضمن هذه المحاولات. و اهم و اشهر هذه المشاكل هي موضوع انتظام الحسابات بمعنى غياب الكميات اللانهائية (الشذوذيات) داخل البناء الرياضي و تعدد الحلول. تجدر الأشارة هنا بأن محاولة ايجاد نظرية كمومية للجاذبية لا دخل له بتوحيد قوانين الطبيعة او ما يعرف في أدبيات الفيزياء بنظرية كل شي.

قد يثور سؤال لماذا نحتاج اصلا لهذه النظرية؟ لماذا لا ندع كل شق يعمل في مجاله؟ فالنسبية العامة نظرية ناجحة جدا على المقياس الكبير و اثمرت في بلورة و ظهور العديد من المجالات العلمية كعلم الكونيات و علم الفلك الرصدوي متسلحا الان بأقوى و افضل وسيلة رصدية عرفها الانسان على الإطلاق الا وهي موجات الجاذبية و التى تمثل أجمل تنبؤات النسبية العامة منذ قرن من الزمان. و في الجانب الاخر منحتنا النظرية الكمومية فهم اعمق لعالم الجسيمات الاولية و مجالات متنوعة كالفيزياء النووية، الفيزياء الذرية و الجزيئية ، فيزياء اشباه الموصلات، الليزر، اللالكترونيات، المادة المكثفة و اخيرا وليس اخرا اعظم انجازاتها التكنلوجية متمثلة في علم المعلومات الكمومية (الحاسوب الكمي). من جهة نظر شخصية الحوجة الى نظرية كمية للجاذبية نبعت في المقام الاول من النزعة الى الانتصار لصالح المقولة التالية : العلم (الفيزياء بالتحديد) بناء مترابط الاجزاء لا يمكن ان يقع التعارض بين اجزائه- و اوضحا في بداية المقال اهم نقاط التعارض بين النظريتين- ولرفع امثال هذه التناقضات كانت الحاجة الى صياغة مثل هذه النظرية. و في المقام التاني نبعت الحاجة اليها من اجل البرهنة على ان التماثل سمة مميزة للطبيعة. يظهر هذه التماثل في تشابه الصياغات بين مختلف مجالات الفيزياء و الذي سمح بجمع بعض النظريات مع بعضها تماما كما شهدنا ولادة النظرية الكهرومغناطيسية بعد توحيد الكهربية و المغناطيسية، و عليه كانت النسبية الخاصة من نتاج تطبيق نسبية جاليليو على قوانين الكهرومغناطيسية ، وشهدنا النظرية الكهروضعية بعد توحيد القوة النووية الضعيفة و التأثيرات الكهربية. من ناحية تقنية فان الجاذبية تهمل تماما في عالم الجسيمات الاولية حيث يكون تأثيرها ضعيفا بوصفها اضعف المجالات مقارنة مع القوى النووية و الكهرومغناطيسية، في حين ان تأثيراتها غير مهملة عند المسافات الصغيرة من رتبة طول بلانك.

اشهر المحاولات المقترحة لايجاد نسخة كمية للجاذبية هي: الحلقات الكمومية (Loop Quantum Gravity) و التى تعرف ايضا ب(Loop space representation) ، الأوتار الفائقة(Strings Theories ) ، الجاذبية الفائقة (Supergravity) ، الكون في قطرة هيليوم (Condensed-matter view: the universe in a helium droplet ) من وجهة نظر المادة المكثفة، التحريك الهندسي الكمومي (quantum geometrodynamics.) او ما يعرف ب(Quantum topology) و القائمة تطول. ربما نفرد في مقال منفصل الحديث عن ال (Loop Quantum Gravity) بوصفها الاشهر و الأكثر تماسكا من الناحية المفاهيمية (الجمالية ايضا !!)

السؤال المهم قبل ختام هذا المقال، ماهي هي الفوائد العملية و النظرية التي سنحصل عليها اذا ما نجحنا في الوصول الى صياغة تامة لنظرية كمية للجاذبية؟! ربما كانت الاجابة كالتالي: من الناحية النظرية سوف يكون لدينا صورة اوضح و اعمق عن الكون وبعض الظواهر المحيرة كالمادة المظلمة و ظواهر الانتروبيا و الثقوب السوداء. من الناحية العملية التطبيقية تعديل بعض الحسابات او قيم الثوابت (بدقة اكبر) المتعلقة ببعض المشاهدات، ومن يدري ربما ادى ذلك الى اكتشاف ظواهر جديد سوف تتنبأ بها المعادلات الجديدة.