وضع ابن خلدون معايير تطبيقات المنهاج العلمي في «كتاب العِبَر، وديوان المُبتدأ والخَبَر، في أيام العَرَب والعَجَم والبَربَر، ومَن عاصَرَهُم من ذَوي السُّلطان الأكبر» والذي عُرف اختصارًا بعنوان «تاريخ ابن خَلدون». ومقدِّمة هذا الكتاب الشهيرة صارت كتابًا مهمًّا بذاتها. كان لهذه المقدمة أثرٌ كبير في الفكر العالمي؛ إذ وضع فيها ابن خلدون ثوابت نشوء الدول وتفكُّكها، وَفقَ رؤيةٍ كاملة شملت النظُم السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والنقدية، إضافة لمستوى التقدُّم في العُمران المدني، هذه الأفكار جعلت منه شخصيةً مركزيةً في الدراسات المعاصرة له قبل انهيار الحضارة الإسلامية منذ 103 سنة ، وشكَّلت هذه الأفكار عند العجم منارةً علميةً في العلوم السياسية والاقتصاد فدُرست مؤلفاته وتُرجمت إلى عدَّة لغات. وأولُ هذه الدراسات كانت على يد يعقوب خوليو الذي تتبَّع فكر ابن خَلدون وألَّف كتابه المعنون رحلات ابن خلدون والذي تمت ترجمته إلى اللغات اللاتينية والفرنسية واليونانية
جدير بالإشارة إليه أن ابن خلدون خريج جامعة القرويين والتي كانت الأقدم عالميا وكان له السبق في تدريس ما تعلمه بها وخاصة، في مصر التي بلغها في عيد الفطر سنة 784ه واستفاض هناك بشروحاته بشأن العُمران البشري وكيف تُبنى الدوّلُ والممالك، وكان متحدثاً بارعاً يخلب لباب السامعين من شدّةِ جمال ملافظه واتزان كلامه وكان ممن تلقى العلم معه تقي الدين المقريزي والحافظ ابن حجر الذي انتفع بعلمه فوصفه: «وكان لَسِناً، فصيحاً، حسن الترسّل وسط النظم؛ مع معرفةٍ تامةٍ بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة»، وهكذا ثبّت ابن خلدون نفسه حتى لاقى حفاوة من قبل السلطان الظاهر برقوق والذي أمر بتبوأ ابن خلدون منصب القضاء سنة 786ه وذلك، بعد سنتين وحسب من إقامته بمصر وكان الولاة دائما ما يغدقون عليه من بيت المال ليستطيع إتمام بحوثاته والتي تناولت الاقتصاد البنيوي؛ فنظر إلى مستوى المعيشة وتناسبها مع عددِ السكان وكثافتهم، ودَرَسَ أسعار الحاجيات والأجور والأعمال، وبحث بها لفهم ارتفاع أسعارها أو انخفاضها وفقاً للعرض والطلب وطبقاً لاستمرار المُدن وكان ابن خلدون يُفرق بين ثلاثة أنواع من البضائع؛ الضروريات، والحاجيات والكماليات فإذا ازداد عدد السكان تقل أسعار الضروريات لأن الناس تجتهد في تحقيقها متوافرة (وبالتالي فإن العرض لهذه السلع يبقى مرناً)، أمّا بالنسبة للكماليات فإن أسعارها تزداد مع ازدياد الطلب بسبب محدوديّة توافرها. وبالتالي فإن للعمران وعدد السكان الأثر الرئيس في الأسعار ومداها. وانخفاض أسعار الضروريات لا يُناقض قانون العرض والطلب فهذه البضائع تنخفض أسعارها بسبب حالات العرض الزائد الناتج عن زيادة عدد السكان. وهنا يوّضح ابن خلدون أن هذا أمر معتاد لكن في الوضع غير الطبيعي فإن الآفات المُتمثلة باحتكار البضائع من قبل التجار تؤدي لارتفاع أسعارها، إضافةً إلى ذلك قد يحدث ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة نفقات الإنتاج فيعمد المُنتِج -لتعويض زيادة النفقات- إلى زيادة سعر السلعة عند بيعها للمستهلك. كان ابن خلدون يرى كذلك، أن الإنفاق الحكومي عامل أساسي في تطوّر العمران ويُصرّح بعباراتٍ جازمة يؤكد فيها أن الطلب الحكومي بمثابة المُحرك الرئيس للنشاطات الاقتصادية، والمُطوّر الرئيس للمجتمع من الزراعية للصناعية، أي إنّ الدوّلة تستطيع المساهمة من خلال الإنفاق العام برفع مستوى الطلب على البضائع والخدمات، وبالتالي تُحفز الأفراد على مزيدٍ من الاستثمارات لتلبية الطلب. دعم ابن خلدون هذه السياسة المالية في عهد المأمون. كما وحذر من اكتناز الدولة للأموال دون إعادة استثمارها، فهذا من شأنّه أن يؤخر النمو فتزيد البطالة وتنخفض قدرة السكان على الشراء.
توفي ابن خلدون بعد قرابة ربع قرنٍ من مكوثه بالقاهرة عن عمرٍ يُناهزُ ستةً وسبعين عاماً في 26 رمضان 808هـ بعد أداء فريضة الحج وكان قد ترك كافة كتبه ومراجعه عامة للمسلمين؛ بل ولغيرهم إذ ثبت تاريخيا أن أفكار ابن خلدون كانت المحرك لكثير من دول الأعاجم خلال القرن قبل الماضي وبقي المؤرخون ينشرون أجزاءً من مقدمته حتّى بدايات القرن الماضي حين نشر كارتمير المقدمة كاملةً بنصها العربي، لينشر -بعدها ببضعة أعوامٍ- دي ساسي الترجمة الفرنسية الكاملة للمقدمة، التي سبق فيها ابن خلدون كونت وأدم سميث كما غيرهما؛ فكان بحق أول من تناول رؤية التاريخ ومبادئ الاجتماع والاقتصاد السياسي وجال في دهاليز التطبيقات الاجتماعية، فهل تذكرون قولا ما لابن خلدون كان له أثر بشأنكم المهني؟
التعليقات