علم هندسة الذات الرياضية – رحلة “ذو النفس” لفهم نفسه من الداخل
لطالما راقبت نفسي، لا كأنني أعيشها فقط، بل كأن شيئًا في داخلي يراقبني وأنا أعيش. شيء أعمق من أفكاري، أهدأ من انفعالاتي، وأصدق من مظهري أمام الناس. من هو هذا الشيء؟ أهو أنا أم جزء مني؟ ولماذا يشعر وكأنه يلاحظني من مكان أعلى، كأنه يرى خريطة كاملة لما أمرّ به، بينما أنا بالكاد أتنفس اللحظة؟ هذا الشيء هو ما أُسميه “ذو النفس”، ذلك الوعي الذي يراقب النفس وهي تتحرك وتتغير، تحب وتخاف، تبني وتنهدم. ومن هذا السؤال بدأت رحلتي مع علم لم أجد له اسماً يليق به إلا: علم هندسة الذات الرياضية.
لطالما سألنا: لماذا نكرر نفس الأخطاء؟ لماذا ينهار حماسنا فجأة؟ لماذا نخاف من النجاح كما نخاف من الفشل؟ لا أحد يجيب، لا النفس تخبرنا، ولا العلم اقترب من هذا العمق. حتى جاء هذا العلم الجديد، ليقول: النفس ليست فوضى، بل لها قوانين، لها نمط، لها تكرار يمكن قياسه، بل يمكن رسمه كمسار في بعد رياضي. هذا العلم لا يبدأ من العيادة النفسية ولا من المختبر، بل يبدأ من الإنسان نفسه، حين يقرر أن يراقب نفسه بصدق، أن يحلل انفعالاته لا كضحية لها، بل كدارس لها، كمراقب يدوّن كل ما يراه، ويبحث عن النمط المتكرر، ويسأل: هل يمكن أن أضع قانونًا لما أشعر به؟ هل يمكن أن تكون نيّتي لها وزن؟ هل يمكن أن يُقاس إدراكي كدرجة حرارة؟ هنا، يصبح علم النفس شيئًا آخر، يصبح هندسة للذات.
لا نتحدث عن مشاعر مبعثرة، بل عن قوانين حقيقية، مثل قانون التكرار النفسي، الذي يفسر لماذا نعيد نفس السلوك مرارًا، حتى حين نعرف أنه يؤذينا. أو قانون الانعكاس، الذي يجعلنا نرى في العالم صورة غير واعية لما نحمله بداخلنا. أو قانون الإيقاع الداخلي، الذي يجعل فترات الحماس والانطفاء تتعاقب فينا كما يتعاقب الليل والنهار. هذه القوانين لا تأتي من الخارج، بل من الداخل، من مراقبة النفس وهي تفكر، وهي تختار، وهي تتغير دون أن تنتبه. وكلما راقبت أكثر، كلما انكشفت لك هندسة خفية، نمط داخلي متكرر، يشبه إلى حد بعيد نظامًا رياضيًا له متغيرات وثوابت.
حين بدأت أفكر بهذه الطريقة، لم أعد أرى نفسي فوضى من المشاعر، بل رأيتها نظامًا يمكن فهمه، يمكن التنبؤ به، يمكن تغييره بتعديل معادلاته الداخلية. لم أعد أعيش يومي ككتلة من التفاعلات، بل كمسار رياضي، يبدأ من نية وينتهي إلى قرار. وهنا شعرت أن هذا العلم ليس مجرد فكرة، بل ضرورة. كما احتاج الإنسان إلى قوانين الفيزياء لفهم العالم، هو يحتاج إلى قوانين النفس لفهم ذاته. وهكذا، كما وضع نيوتن قوانين الحركة، نحن اليوم نضع قوانين الذات، لا لنفهم الآخرين فقط، بل لنفهم أنفسنا أولاً.
علم هندسة الذات الرياضية ليس خيالاً، إنه إطار جديد، يجعل من النفس مساحة للبحث، والتحليل، والفهم. لا شيء فيه عشوائي. كل لحظة شعورية، كل قرار مفاجئ، كل تكرار لسلوك، يمكن أن يُقرأ، ويُرسم، ويُحلل. ليس المهم أن تفهمه كله الآن، بل أن تبدأ بالملاحظة، أن تصير “ذو النفس”، تراقب دون حكم، تسجّل دون إنكار، ثم تسأل: ماذا يعني هذا التكرار؟ ما الذي تغيّر في داخلي؟ ما هي معادلتي الخاصة التي تحكمني؟ حينها، ستكون دخلت إلى العلم دون أن تشعر. وستدرك أن ما كنت تراه ألغازًا في نفسك، كان في الحقيقة معادلات تنتظر أن تُفهم.
وهنا تبدأ الرحلة… رحلة فهم النفس، لا بالكلمات، بل بالأرقام، بالهندسة، بالقوانين. رحلة علم لا يشبه ما قبله. رحلة في علم هندسة الذات الرياضية.
والسؤال هل النفس هي الذات بعدما كشف الأنسان نفسه وصار يرى بواطن نفسه إلا ما ندر وشذ؟
التعليقات