تسنيم خالد صعابنه

الشتاء، رواية طويلة، ووحدة مملة، حنين سيئ، أجواء باردة، يا له من شتاء يكون فيه لليل وحشة تجعلك تهرب إلى فراشك؛ لتستدفئ تحت الغطاء من البرد والألم والشوق والحنين.

في ليلة أمس، والأجواء باردة، والمطر يهطل بشدة معانقاً الأرض بقوة، ذهبت إلى سريري وأردت الخلود إلى النوم، إلا أن طوفان ذكرياتي أذهب النعاس من عيوني، تذكرت كل لحظة قضيتها مع أمي الراحلة، أمي النائمة في قبرها طويلاً، والمستيقظة في قلبي.

كيف للقلب أن ينساكِ؟

«بموت أمي.. يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي، آخر قميص حنان، آخر مظلة مطر، وفي الشتاء القادم، ستجدونني أتجول في الشوارع عارياً». نزار قباني

أحن إلى أمي ودعاء أمي وصوت أمي وجلسات أمي، عشر سنوات وأنتِ بعيدة عني، اكتويت بنار الفراق والحرمان، والألم الذي اجتاح قلبي منذ رحيلك، فقلبي قد ذاب من الألم، وبكى على ذكرك، ولامني على فراقك، أنت سندي ومصدر قوتي لا أستطيع من دونك العيش، ما عدت أتحمل الفراق.

من سيمنحني القوة بعد الآن؟

ويجعلني أفرح وقت حزني؟

ويخفف عني صرخات قلبي؟

كيف للقلب أن ينساكِ؟

منذ سنوات وأنا أشتهي أن ألمس يديكِ الطاهرة، وأشتم ريحكِ العطرة، ووجهك الملاك، أشتاق إلى الحديث معك عن كل شيء، عن دراستي وتفوقي، عن أصدقائي، وطعامي، وسؤالك الموجه لي دائماً، ماذا تريدين أن أطبخ لك يا ابنتي؟ أشتاق إلى نصائحك التي كنتِ تقدمينها إلي، والتفاؤل الذي كان يطوق جلستنا في كل مرة، فأنت يا أمي مصدر تفاؤلي، أذكر أنك كنتِ ترددين لي جملة كلما رأيتيني مكتئبة فكنتِ تقولين لي، «تفاءلي يا ياسمينتي»، لا وجود لتشاؤم وأنا موجودة، أمي أنت الآن غير موجودة، والتشاؤم يخنقني، والبرد يقرصني، والنكد يلبسني.

أيتها النفس الطاهرة، الوطن الدافئ، لقد كان وجودك جنبي يلملم شتاتنا، ويضيء طريقنا، ودعاؤك يمحو كل المشاكل والمحن، وصوتك يزيح البلاء والمعاناة عن قلبي، رحلتِ ورحل الوطن، ورحلت أحلامي وطموحاتي، وأمنياتي، رحل كل شيء.

الموت أبشع ما عرفته في حياتي، وأقبح ما رأته عيني، يختار كل يوم أحد الضحايا، وربما اختار الآن أمي، وجع قلبي، اختار أجمل قلب وأحن روح؛ ليعذب نفسي ويؤلم روحي.

مرت سنوات على وفاة جنتي، وكأنها توفيت الآن، يتردد صوتها في أذني كل وقت، وكل ما حولي يذكرني بها، أذهب إلى المطبخ وأتذكر يديها الطاهرة وهي تطهو الطعام، وأنظر إلى الشرفة وأتذكرها وهي جالسة تحتسي قهوة الصباح، زهورها التي كانت ترويها كل صباح ومساء، لمن ستبقى الآن متفتحة تزين المنزل؟ أشعر يا أمي بأنفاسك في كل زاوية من زوايا المنزل.

أذكر يوم وفاة أمي قبل سنوات، كان يوم الجمعة، اليوم المسمى بـ»جمعة العائلة»، والتي كان من المفترض بهذا اليوم نجتمع مع أقربائنا وإخواننا في بيت جدي الكبير، لكن في صباح هذا اليوم استيقظت أمي وجلست تنظر من شرفة المنزل وتقول لي: ابنتي الغالية، روحي التي أنجبتها بعد عناء طويل، طفلتي الصغيرة التي أخشى عليها حتى من نفسي، لا تخافي يا ابنتي فالموت قد اقترب مني، وهذه سنة الحياة، والموت زائر للجميع، وأنا أشعر أنه قد جاء وقت أن يزورني، يكفيني أن أستقبل الموت وأنت بجانبي، كنت أتمنى أن أبقى معك حتى لحظة تخرجك من الجامعة، ويوم زفافك، كنت أتمنى أن أراك بالفستان الأبيض كالحمامة البيضاء، لكن هذا ما أراده رب العباد، وفجأة ودون سابق إنذار سقطت أمي من بين يدي، وتركت ألماً يوجعني، ولا شيء يسعدني بعدها.

تعلمت من صاحبة القوة والنجاح، أنني أقدر على فعل أي شيء حتى لو كان مستحيلاً، فقد عشقت المدرسة والدراسة، بعدما كنت لا أطيق الذهاب إليها، وأصبحت أواظب على حل واجباتي وألجأ إلى أمي كي تساعدني فيها، وقد جاءني الحظ يوماً لأشارك في إحدى المسابقات المدرسية، وبتشجيع من أمي وبكلماتها الجميلة، زرعت داخلي الحماس والانضباط والنجاح، وتقدمت يومها إلى المسابقة بكل فخر وشجاعة، وحصلت على المرتبة الأولى، فتعلمت أن الأم من تزرع الوعي والإبداع والرغبة عند أبنائها.

سامحيني يا أمي إذا خذلتك يوماً، أو عذبتك لحظة، أو خالفتك بشيء، أو رفعت صوتي في وجهك، إذا تنمرت من أمر ما، سامحيني إن قصرت في حقك يوماً، إذا نظرت في وجهك نظرة عابسة، إن تجاهلتكِ يوماً دون قصد، فحبال الندم التفت حول عنقي وكادت أن تخنقني.

كيف للقلب أن ينساكِ؟

لا يا أمي لن أقول وداعاً يا أجمل ما رأته عيني، وأغلى شيء على قلبي، سأقول إلى اللقاء القريب عند رب اللقاء.

هذه ليست تجربتي الشخصية بل من وحي تجارب وقصص أخرى.