رائعة الطفولة "اتمنى" لهيروكازو كوريدا واحد من أهم المخرجين الذين اجادوا حديث أرواح الأطفال..

يقص الفيلم حكايته عن طفلين ليسوا بالرضع لكنهم في هذه المرحلة التي لم يخسروا فيها شغفهم بالحياة وبكل تفصيلاتها الصغيرة روحهما المجرده من جمود البالغين ومشاكلهم السخيفة تجعلهم بشكل مستمر خائضين في الحياة مكتنزة أرواحهم بالشغف و الفضول يملأ سحرهم بالحياة أمواج الاثير...

 

وفي مشهد معين يأتي ربما في منتصف العمل بعد العديد من المشاهد البديعه والمرتبة بسلاسة رائعة.. يأتي هذا المشهد متوج باجمل إكليل من البرآءة يستعرض فيها قمة العفوية والبراءة لاحدى الشقيقين.. على طاولة الطعام العائلة مجتمعة الام على اليمين و الاب على اليسار و الشقيق الكبير ظهر مواجه الكادر.. تبدأ الام بالشجار مع الاب لكونه غير مسؤول لانه خسر عمله بكل برود يخبرها انه سيحصل على عمل اخر.. تشيظت غضبا ثم بدات بالقاء الطعام عليه الشقيق الصغير يطالبها بأن تتوقف عن ذلك.. في حين ان الكبير اخذ صحنه على الفور واتجه بعكس الطاولة ليكمل اكله بشراهة.. غير مبالي بما يحدث على الإطلاق ..

المسافات تفرق بين الشقيقين الصغير مع الاب والكبير مع الام.. في الواقع هذا لم يحزنهم كثيرا لكونهم غير واعين بما ينقصهم فقط يتمنون لو ان ابوينهم يلقون بخلافاتهم بعيدا لكي تجتمع العائلة مع بعضها مره اخرى.. وحتى مع هذه المسافات مازال الشقيقين يتمتعون بالحياة وبكل تفاصيلها البسيطة التي بحوزتهم خلافات الكبار لم تحيل بينهم وبين وهج طفولتهم وحبهم لبعض ولا نفسهم.. بعد أن تناقلوا إشاعة بريئة كما هي أرواحهم تفيد بأن اذا التقى قطارين متعاكسين ببعضهم تحدث معجزة وهي تحقيق اي أمنية تسكن خواطرهم..

كلن من الشقيقين لديه أصدقاء وكلهم ذكروهم ان مر زمن طويل و مازالت المسافات تحيل بينهم كلن منهم سينسى الاخر واصحبت هذه الفكره هي ما تؤرق قلوبهم الرقيقة.. يبدأ كلن من الشقيقين جمع بعض من المال الكافي ليجتمعوا ببعضهم بعد أن فقدوا الأمل من أن يفعل ذلك أولياء أمورهم..

نجح كلن منهم بخطته واجتمعوا ببعضهم بمساعدة ومرافقة اصدقائهما لهم .. بالطبع تجمعوا عند القطار وكل الأطفال بصوت عالي صرخوا بامانيهم.. منهم من تمنى ان يترك والده القمار ومن تمنت بأن تصبح ممثله مشهوره... الكل صرخ بامنيته الا الشقيقين اعتراهم الصمت في تلك اللحظة..

وبعد هذا المشهد الجميل أتى مشهد بديع للغاية..

يخبر الشقيقين بعضهم البعض انه في الواقع لم يختر اي منهم ان تجتمع عائلتهم كما كانت سابقا بل ان كلن منهم اختار نفس حياته الحالية..  اختاروا الحياة التي اعتادوها والفوها عن اماني لا يعلمون أين سترسو بهم.. هو ليس بمشهد حزين في ظاهره ولا يفتعل ذلك ابدا لا بموسيقى حزينه ولا دموع ولا كوادر مظلمة.. بل انها خرجت منهم بعفوية موشحة ببراءة الطفولة وجهلها كما هي كل أحداث العمل ... هو فقط حزين بالنسبة لي لاني كشخص بالغ ادرك ان هذه هي الخطوة الأولى التي تخترق فيها الروح البرزخ الذي يفصل بين مرحلتيها الطفولة و الكهولة

عندما تخف سطوة جموح احلام الطفولة و أمانيها الوردية وتبدأ احلام المرء و امياله بالانصياع إلى الواقع ويبدا جوهره بالضمور تحت نير قسوة الحياة الواقعية و يضحى بعدها بأحلام ورغبات جديدة اخرى تتناسب مع معايير الواقع..

فيلم كوريدا البديع هذا جعلني اعتقد بان للروح حياة تختلف عن الجسد لها مرحلتان لا ثالث لهما اما شروق الطفولة او غروب الكهولة فهي لا تتقبل المنطقة الرمادية التي بنت الحياة نفسها عليها و وضعته في اسرها.. و يفصل بينهما برزخ رقيق وهو الوعي التام بأن الحياة خلت من المعجزات.. والأماني ليست الا صعقات كهربائية تطلب من الروح البقاء لأجل هدف غير معلوم..

وربما كلنا تخطينا واخترقنا هذا البرزخ دون أن ندرك منذ أمد بعيد و بعض منا  يمتلك الهبة التي تسمح له بزيارات إلى الوراء لهذا العالم الصغير الكبير الخلاب ليسرق بعض من معالمه.. لنتامله بحب و ننعم ببعض من أحاسيس الماضي البعيد حينما كنا قلوبنا في أنقى مراحلها على الاطلاق..

ان الجزء الكبير ربما الأهم الذي يكسب الفيلم اصالته هو روح البيئة التي يتبناها العمل تفاصيل التفاصيل لحياة هذه البيئه حينها يكون القالب صلب ويصبح بشكل ما جزء مهم من المكنون.. وان السينما الواقعية تربح بعد آخر زاخر بالسحر حين ترصد حكايتها من وجهة نظر طفل ولا اقصد ال over voice لطفل مزعج التي توضفه هوليوود في كثير من الاحيان حينما تجسد أعمالها من وجهة نظر أطفال في الواقع اعتقد انه افتعال للبراءة لا داعي له في حين انك لا تحتاج هذا التكلف المباشر لان الأطفال يفيضون به من كل مآتيهم ربما على هذه الرؤى الا تخرج الا باساليب كيارستمي و كوريدا و كارلوس سورا و سيلين سياما و كين لوتش وغيرهم من يتقنون لغة الأطفال.. ولا تحيل اعمالهم عن الأطفال بما لا يخصهم ولا تسرح كاوادرهم طويلا لا في سحر الطبيعة و لا في ضجر تعقيدات البالغين وفي الغالب الكاميرا تلازم الطفل غير مبتعدة عن تفاصيل حياته راصده لسحر عفويته المطلقة التي لا تحدها شروط الكبار.. لانه هناك عالم كامل يستحق التآمل في جوانيات الطفولة.. وان ربما اكثر الصعب الممتنع هو سرقة هذه العفوية ووضعها بشكلها الخام دون أن يجرحها قالب العمل.. هو سحر رصد الأطفال لتفاصيل حركاتهم وحديثهم وتساؤلاتهم كل تلك الحركات النابعة من أرواح لا تعرف غير الفضول نستاء منها ربما في الواقع ونضجر منها في الغالب و نمل منها و نهملها في غالب الاحيان بذريعة انشغالات الحياة.. تختزل هذه الأعمال البديعة جزء من ذاك السحر لتنبهنا عن هذا الجمال الضائع المهمل وتذكرنا بالارضية الأولى التي جمعتنا بحالاتنا الأكثر تجردا و التي كنا عليها يوما و اضمحلت تماما اليوم دون وعي منا سرقها الزمن وقبرتها مسؤوليات الحياة ومتطلبات النجاة فيها..