هذه المشاهد أسوقها للذين لا زالت مخاوفهم ومعتقداتهم عن الأمن الوظيفي تعيقهم عن أخذ خطوات جدية نحو العمل الحر كمستقلا أو حتى البدء في تأسيس مشاريعهم الخاصة، خلاصة الأمر هو أنك بين خيارين لا ثالث لهما إما ان تتشدق بالأمن الوظيفي وتبقى في ظل وظيفة تظن أنك في ظلها تعيش بآمان من عواقب الدهر وتقلاباته وتضمن فيها رزقا ثابتا وعملا تحت أقل مستويات الضغط النفسي أو الخيار الثاني هو أن تعمل ما تحب وبالطريقة والوقت الذي تحب في ظلال من المغامرة والمخاطرة وبجو مملوء بالنشوة واللذة والاستمتاع، سأسرد هنا موقفين صادفتهم بحياتي أثرا في وأريدك أن تعيشهم معي وتأخذ بعدها قرارك.

في أحد ليالي القاهرة وبوقت متأخر ركبت مع سائق بعدما بدأت تقل المواصلات للمنطقة التي أسكن بها تدريجيا بكل كادت تنعدم، تحدثت إلى السائق في حديث مشوق أخبرني فيه بأنه درس الموسيقي في الجامعة وتخرج بامتياز وعرض عليه العمل معيدا " عضو هيئة تدريس بالجامعة "ولكنه رفض، أدهشني الخبر وتساؤلت هل رفضت العمل في الجامعة لتعمل كسائق تاكسي؟، أجابني أنه فضل العمل عازفا مستقلا وسافر إلي الخارج لأكثر من دولة وحقق نجاحاً ودخل مادي جيد لكن أنتهى به المطاف كسائق تاكسي، صارحني بأنه ربما تأتي عليه لحظات نادماً من أجل عائلته لإضاعته فرصة عمل كانت لتكفل لهم ظروف معيشية أفضل لكنه يقول عشت أجمل أيام حياتي مستمتعا وأنا أعزف استمتعت جدا بعملي بشكل لا أتصور أن يعيشه أحد لم أعمل مكرها في شيء لا أحبه وأعيش حياتي على ذكرى هذه الأيام وإن لم أواصل نجاحي وتقلبت الأيام.

لك أن تختار بين أن تعيش عازفا مستمتعا بما تعزف، أو أن تعيش حياتك تعمل في شئ لا تحبه بروتين ممل بدون أي روح أو أمل.

المشهد الثاني، تابعت فتاة صينية خرجت من المنطقة التي أسكن فيها في القاهرة والتي تشتهر بأنها تعج بالطلاب الجامعيين المغتربين، ركبت الفتاة أحد المواصلات العامة وذكرت وجهتها بدقة لأشهر ميادين القاهرة تابعتها إلى أن وجدتها تفترش الأرض وتخرج من حقيبة الظهر الكبيرة التي تحملها تشكيلة واسعة من أجهزة الهواتف النقالة المصنوعة في بلدها وتبدء في عرض منتوجاتها والتواصل مع زبائنها المحتملين في بلد فقير كمصر أغلب سكانه يفاصلون الباعة حول السعر بشكل مضني وبالساعات الطوال وفي ظل فقدان آلية التواصل معهم فهي لاتعرف سوى الأرقام بالعربية وتحدثهم بلغة انجليزية ضعيفة، وتعمل في محيط من الباعة الجائلين المشهورين بأنهم الطبقة الأسوأ في الأخلاقيات والأشهر في عالم الجريمة في القاهرة، بالتأكيد لهذه الفتاة عائلة وأم وأب لديهما ظروفهما المعيشية والصحية كما الجميع كما أنها تواجه عوامل تعيقها كاللغة وصعوبة السوق وغيرها الكثير لكنها تعمل وبالتأكيد تجنى رزقها الذي يجعلها تواصل حياتها.

لم ألمح في عيون الفتاة بؤسا ولم أرى قصتها عابثة ولكني وجدتها فتاة مفعمة بالنشاط والأمل عندما أتى عليها وقت الغذاء أتت بقنديل مشوي " كوز ذرة شامية كما يسمونه المصريين" -وهو أكلة للتسالي نوعا ما - ووجدتها تتناوله في استمتاع لتواصل مبيعاتها، وجدتها نموذجا يعجز ذلك الشباب العاطل المتعلل بظروف سوق العمل والحياة من حوله.

بعد هذه المشاهد الخيار لك إما أن تختار العمل على ما تحب أو أن تعمل في دائرة الأمن الوظيفي أو تظل قابعا إن كنت لا تعمل من الأساس، الأيام تدور على الجميع ولازاما سينتهي دورك ولا يبقى سوى الطريقة والنتائج التي مارست بها هذا الدور.