الليلة... أكتب عنه، وأكتب إليه.
جلستُ أمام صورته القديمة التي ما زالت تحتفظ بملامحه الأولى؛ بوجهه الوادع وابتسامته،
ثم أمام صورته الجديدة وجه مشدود، وعينان متعبتان، وملامح متجهمة تخفي تحتها روحٍ منهكة.
إليك يا صديقي...
يا من لم أحبَّ في الناس قلم كما أحببتُ قلمك،
ولا وجدتُ بين الكتّاب روحٍ تشبه روحك في نقائها وصدقها وحنينها إلى الجمال.
ومع كل كلمة تكتبها، تُعيد إلى اللغة طهارتها الأولى،
وتزرع في الحروف شجرتها التي نبتت في تراب القلب، حتى غدوتَ القلم الذي يُذكرنا بأن الكتابة صلاة لا تُؤدَّى إلا بوضوءٍ من الصدق.
تكتب، فأُنصت كما يُنصت للأذان في سكون الفجر،
تكتب بالحب، وتحب بالحرف، وتصلي بالكلمة، وأقرأك كما يقرأ العاشق وجه محبوبته؛ بكامل وجدِه وانخطافه.
كنتَ، يا صاحبي، الكاتبَ الذي تخرج من قلبه كل كلمةٍ ضوءًا يعرف الله والجمال معًا.
فإذا صمت بعد الكتابة، أحسَّ القارئ أن في الدنيا فراغ لا يُملأ.
وإذا كتبتَ عن الحب، فُتحت في القلب نوافذ لا حصر لها، وإذا كتبتَ عن الفقد، بكى القارئ معك دون أن يدري، وإذا تحدثتَ عن الفلسفة، أحس أنه يطير في فضاءٍ من الحرية.
ولا زلتَ الكاتبَ الذي يخط بدموعٍ خفية وبياض من القلب، حتى يخال القارئ أنه أمام نبيٍّ من أنبياء الكلمة.
وحين أقرأك، أشعر أن الحرف طين من الجنة، وأن بين السطور عطرًا من أوّل الخليقة.
لكنّ، يا صديقي، لا تُبقي الأشياء على نقائها الأول.
جاء ذلك اليوم...
صباح عاديّ الملامح، رأيتُ فيه اسمك يلمع على شاشة هاتفي كما اعتدتُ،
فابتسمتُ، وظننتُ أن صباحي اكتمل،
حتى فتحت الرسالة.
قرأتها... فغاب عني كل ما عرفته عنك.
الكلمات غريبة، دخيلة، ثقيلةَ الوقع، حادّةَ النغمة، خالية من النبض، مثقلة بغبار السياسة.
بحثتُ فيها عن الروح التي كانت تُزيّن النصوص دائمًا، فلم أجدها.
غابت الروح الجميلة، وحل مكانها ضجيج الولاءات والخصومات، وتلطخت السطور بغبار السياسة، تفوح منها رائحة الولاء الأعمى والاصطفاف الذي يقتل الجمال.
قلتُ في نفسي... لعلها زلة قلم، أو ساعة غضب.
لكنها لم تكن كذلك.
تكررت النصوص، وكتبتَ بلسان ليس لسانك، ودافعتَ كجندي مأجور عن الحزبية والمناطقية، وهاجمتَ خصومك باسم الدين والوطن.
دخلتَ دهاليز السياسة دون أن تتدرّع بدرع الضمير،
وغرقتَ في مستنقعها، في نار تخدع ببريقها من يقترب منها، دون أن يدرك أن أول فساد يصيب المثقف هو ولاؤه المطلق لأي جهة.
يا له من سقوط!
سقوط من قمةٍ كان فيها النور، إلى واد غارق في الطين.
وما أقسى سقوط المثقف!
تسقط معه قلوب كانت تؤمن به، وثقة قراءٍ أحبوه، وصورة في الوجدان أنقى من البلّور.
سقوط المثقف عثرة فكرية، وخيانة روحية، يرتكبها لصوته الداخلي، لضميره، وللقارئ الذي صدّقه وآمن بنوره.
آهٍ يا صاحبي...
انحدرتَ حين جعلتَ قلمك بوق،
وغَرقتَ حين هجوتَ المختلفين لأنهم لم يُصفّقوا لك، وحين هاجمتَ بأصابعك من كنتَ تراهم إخوة الحرف،
ما هكذا كنتَ في عيني، ولا هكذا عرفتك.
عرفتك إمام القلم، ونبي البيان، فإذا بك تُصلي في محراب المصالح، وتحيله بوق في بلاط السياسة.
ما أقسى أن ترى من أحببته يسقط،
وما أوجع أن يكون سقوطه في المكان نفسه الذي كان يصعد منه دائمًا!
ومع ذلك...
ما زلتُ أؤمن، أن فيك بقايا من ذلك النور القديم.
فالذين كتبوا بالصدق يومًا، لا تموت فيهم الكتابة تمامًا.
وربما يأتي يوم تنفض فيه روحُك غبارَ السياسة، وتعود إلينا كما كنتَ نبيًّا للكلمة.
وحينها يشرق ذلك اليوم فقط... سنغفر لك.
فكري محمد الخالد