السند التربوي:

(لقد عايش العربي الطبيعة فكان معها في مساس دائم منذ نعومة أظافره فكانت عيناه تقعان على كا ما يراه وما يقايسه)

التعليمة:

توسع في هذا القول مبينا أثر الطبيعة في بناء شخصية الفرد في فقرة لا تزيد عن سبعة سطور موظفا ما تيسر من الأفعال المضارعة المنصوبة والمجزومة وبعضا من صور التشبيه والكناية، متوخيا النمط المناسب.

هذه التعليمة وسندها منقولان من اختبار مادة اللغة العربية وآدابها للسنة الأولى ثانوي.

ولن أركز على تفاصيلهما، وإنما على قاعدتهما العامة فقط.

وإذ أوجه نقدي لبعض مناهج التعليم لا للأساتذة، فإنه يظهر من الوهلة الأولى التباعد الواضح بين التلميذ والبيئة التي سيتحدث عليها.

بيئة طبيعية بدوية والتلميذ مدني حضري، بادية بحشيشها وأشجارها وجبالها وصحرائها ومختلف حيواناتها ووديانها وآبارها وأحراشها وأحواشها ومفاوزها وقساوتها وأوحالها،، وغير ذلك من المظاهر، وحاضرة بعماراتها وحوانيتها وطرقها المزفتة وكل مرافقها وليونتها وغيرها من المظاهر اليسيرة.

مظاهر متضادة تماما يراد لأغلبية التلاميذ التعبير عما يجهلونه، ليستثمروا فيها استنباط بناء أهم مظاهر الشخصية القوية.

لقد تعمدت بعد رؤيتي هذا السؤال اللقاء مع عدد لا بأس به من التلاميذ لأسألهم عن الطبيعة، والمقصود منها في التعليمة، فمنهم من ذكر البادية وبعضهم زاد الشعر، فوجدت أغلبهم لا يعرفها وقليلهم زار بيت الجد أوالأقارب في ليلة أوليلتين،،،، تلميذة اعتبرت بلدية الربعية من الصحراء وهي تقع في ولاية المدية بالشمال الجزائري.

فكيف يراد لمثل هؤلاء تكوين الشخصية الفردية من خلال طبيعة إن سمع عنها فلا يعرفها، أوزارها ليلة واحدة فقط،، بله عدم القراءة المتوسعة لها؟ وعدم تناولها في حجرة الدراسة إلا في حصة معظم وقتها لعناصر أخرى؟

إن كان مقصود السؤال تكوين شخصية الشاعر فهل يعرف تلميذنا المعاصر كيف يصقل الشعر شخصية قائله؟ وأسباب ذلك؟

هل اغترف من الشعر العربي والجاهلي بالخصوص ما يملأ قريحته بما يمثل لنا صورة واضحة عن المطلوب؟ اللهم إلا النزر اليسير الذي لا نقيس عليه.

هل نستطيع جمع خمسين تلميذا في كل مؤسسة يعرف أسماء وألقاب وكنى شعراء وأدباء عصور غابرة قبل وبعد البعثة النبوية الإسلامية حتى ينهل منها مقاله حول السؤال؟

وإن كان المقصود من السؤال كيفية تشكيل الشخصية السوية القوية من خلال التدريب المعنوي والبدني والذهني البدوي:

فكيف يتصور التلميذ بناء الشخصية الفردية وهو لم يسر في مضايق الجبال متحملا مشاقها كي يتدرب على صلابة مواصلة السير في الدروب الصعبة؟

كيف يبنيها ولو خيالا بتعبير كتابي وهو لم يسكن أولم يبت على الأقل شهرا في حوش له فناء وباب من خشب، لم يقض ليلة واحدة حارسا يتعلم مسؤولية العناية بالأسرة وممتلكاتها؟

كيف يكتب لنا فقرة وهو لم يملأ دلوا من بئر، أولم يُحْكَ له عنه؟ لم ير أحدا يستغل مرور النهر لفتح فروع مائية لسقي الأشجار أوالنخيل أوالعنب أوالزيتون أوالتين أوغيرها متحملا عبء انحناء الظهر للشفقة عليها كي لا يهشمها تصحر قد يكون المتسبب فيه؟

لم يلفح جسده برد قارس أوحرارة صحراوية، ولم يرع أولادا أوإخوة من فيحيهما؟ لم يتعامل مع البقرة المخيفة ولم يروضها ولم يحلبها، لم يحنَّ على خروف، لم يرفق بنعجة تلد وهو يساعدها على قرء وليدها، لم يصبر على السير بعنزة ترعى من أحراش المرتفعات وأعشابها الصلبة، لم يتمرن مع شجرة الرمان الشوكية ليسقيها ويقلمها، لم ينهض باكرا لاقتناء أوشراء طلع النخل والتين، لم يحضر عشاء المواشي ليلا، لم يتعامل مع الخيل والبغال والحمير يروضها ليحمل عليها أثقاله فيما لا تصله السيارة، لم يتحمل لأواء الرياح تتقاذفه وهو يربط أحجار الخيمة كي لا تقلعها، لم ير المرأة الريفية الحازمة العازمة من بكرة يومها، تحضر ما يتناول به فطور الصباح قبل استيقاظ الجميع، تقعي لحلب البقرة أوالعنزة أوالنعجة، تعصب جلبابها لجلب الماء من بعيد، لم ير أويسمع عن الرجل وهو يحمي الحياض، لم يحمل نفسه الجمع بين الإنسان والحيوان والشجر والحجر في البادية، لم يجتمع في جلسة شاي أسري ليلا مع الجميع يتربى بالمشاهدة قبل التوجيه والتنبيه بالقول، في فناء تحت ضوء البدر.

نعم الطبيعة تربي على قوة الشخصية بالتدريب على الصبر، وقوة الإرادة النابعة من ضرورة العمل للتغلب عليها، بمراعاة الخشونة لمقاومة النوائب، بالتحضير للطوارئ، باللباس الخشن حتى أثناء النوم، بالحرص على تنظيف الأفنية من فضلات الإنسان والحيوان لأن التأخر القليل يراكم الأوساخ ويجلب الأمراض، بالسرعة في الإنجاز لأن التكاليف كثيرة لا تحتمل التأجيل، بالشجاعة على عواء الذئب والاستعداد لمقاومته حماية للمواشي، بالصبر على ضغيب الأرنب، وبطبطة البطة، وخوار البقرة، وشحيح البغل، ونقنقة الدجاجة، وصقاع الديك، وصهيل الخيل، وزقزقة العصفور في الصباح الباكر وهو ينغص النوم، باليقين أن الحياة هكذا تقود المرء إلى بناء الأسرة والذهاب بالأجر، بالراحة المعنوية والتفتح الذهني لفسحة المساحات، التي تورث في نفسية البدوي الرحابة المعنوية التي لا تضيق بضيف، فيشعر بالسرور والفخر لو نزل به ثم أكرمه واحتفى به، والأفق البعيد القائد إلى النظر الثاقب، والتأني المورث للرزانة، بالتدرب على التدرج انطلاقا من الفلاحة والرعي والسقي التي تقنع أن لا شيء ينتهي قبل أوانه أوبسرعة أودفعة واحدة فلابد من السير إلى الأمام لكن بالدوام المطاوع لأن الحصاد والزراعة وتقليب الأرض والحرث وغيرها لا تنتهي في وهلة، بل تستدعي اليقين بالتّصّعد لكن الوصول بالدوام يقيني.

هذه بعض ملامح شخصية الإنسان البدوي الطبيعي، المخالفة تماما لشخصية الحضري التي نعاين معالمها في يومياتنا،، فكيف يقيس من لا يعلم بما لا يعلم؟ وفي الفقه الإسلامي وأصوله يقال عنه قياس مع الفارق.

وقد كان الأفضل بسط أسئلة حول ما يراه ويعايشه التلميذ ليستطيع تدوين مقال يقابله نقد واقعي وتقويم نقدي عادل، فما هي معايير نظر الأستاذ فيه وهو مضطر لتقديم علامة عادلة؟

في أي كفتي الميزان يضعه؟

كيف يقرر علامته على بضعة سطور لا تفي بالغرض التصويري الفني ولا بالمطالب الإملائية والنحوية؟

لأنه مهما يكن فالعلامة إجحاف، أوإسراف وتبذير.

لذلك أنصح وزارة التربية والتعليم بالنظر الشامل في قواعد وتفاصيل التعليم من جديد لانطلاقة علمية صحيحة مبنية على الواقع المعلوم لا المجهول.