يوم أمس كان عندي امتحان في الطبّ العدلي، وقد فقدتُ -أو كما أحبّ أن أعبِّر- نزفتُ ثلاث درجات من عشرين، ولم يكن هذا النزف الغزير من سوء تحضير، بقدر ما كان قرارات لا يتّخذها عاقل رشيد في لحظات الامتحان الفاصلة.

عندما أظهر لي اصدقائي خطأي الثالث، صرخت منزعجًا "لااااا" حتّى لقد روَّعت فتيات خفراتٍ كنّ يقفن أمامي، ماذا -يا غيركن الفنا- تتوقّعن مني؟ الألم هو ردّة فعل طبيعية للنزف الغزير.

بعيدًا عن الامتحان، الأمر أعاد لذاكرتي مقالًا قديمًا، عن عالم فيزياء، كان يمرُّ بمعاناة مماثلة، وقد صاغ مقالًا عظيمًا أترك لكم رابطه في نهاية المنشور.

أذكر عن مقاله أنّه كان يتململ من الفيزياء، على الرغم من أنّه متفوِّق لدرجة كبيرة، لكنّه لم يكن يدفع نفسه لاجابة سؤال "لماذا هذا مهمّ لي؟" ولو تهرّبتَ من سؤال كهذا عليك أن تحذر، لأنّ هذا قد يدلّ على وجود ثغرات في طريقة تفكيرك وتعاملك مع الأمور المهمّة.

يقول إنّه قرر أن يذهب للفيزياء بسبب عناده، وبسبب قدرته الخارقة على تحمّل العناء لأجل العلامات الجيّدة. لم تكن مواضيع الفيزياء تستهويه بالفطرة منذ صغره، لكنّه كان يسعى دائمًا للحصول على المراتب الأولى، وكان يضع الساعات الطويلة في سبيل ذلك، وقد كان يحصل على بعض اللذّة حينما يتفوّق على زملاءه، لكنّه لم يكن ليعيش بسعادة.

أن تكون ضمن جماعة من الناس وتجتمعون نحو هدف محدّد، وهذا ما يحصل في الجامعات والمدارس، هذا يعني أنّكم قد تقيسون تفوّقكم بترتيبكم على بعضكم، وبهذا بدّلتَ الهدف السامي، والذي في حالة صاحبنا معرفة كيف تعمل الطبيعة من خلال الفيزياء، بهدف آخر أقلّ أهمية، وهو ترتيبه على أصدقاءه.

أن تكون في جماعة لفترة طويلة من الوقت، يعني أنّك ستتخلّق بكثير من خِلاقهم، ويزيد الأمر سوءًا أن لا تكون لك حياة أو وظيفة خارج الفيزياء، فلا تتخيّل أن الفرار مُمكن، بل لا تتخيل فرارًا أصلًا.

بهذه الكلمات وبغيرها كان يعبّر صاحبنا عن أسباب تهرّبه عن اجابة السؤال المهم "لماذا هذا يهمّ أصلًا؟" فهو تارة منافس عنيد لأجل الدرجات، وهو في تارة أخرى محاط بجماعة لهم نفس الهدف، فيصبح الأمر طبيعًا أن تسعى معهم، وتنسى أنّك لم تكن مهتمًا من الأساس.

إن كُنتَ تستمتع بكونك تنافسيًا، أو ترتاح في جوٍّ تقودك فيه قوى تقليد المحيط، فافعل ذلك، ففي النهاية، لا شيء يزيد الطموح، ويقوّي الحافز غير وجودك في جماعة في جوٍّ تنافسي، لكنّ لو كان الأمر يضرّك، فعليك أن تفكّر مرّتين، خصوصًا لو لم تكن مستعدًا نفسيًا لذلك.

"لماذا يهمّ هذا أصلًا؟" كرّر هذا السؤال، هو الذي سيخرجك من هذه الدوّامة، وهو لا يعني ضرورة أن تترك كل ما ألفته (في حالتي أربع سنين من الجامعة) لكن تكرار السؤال واجابته بطريقة عميقة دائمًا، سيحثّك على أن تجد التوازن المثالي في حياتك، بين أن تكون مُنتجًا، وبين أن تعيش حياة لها طعمٌ من الهناء.

يقترح صاحبنا كمرحلة اضافية للخروج من هذه الدوّامة، أن تقرأ كتابًا خارج مجالك، أو تستمع إلى بودكاست، لأنّك ستُدخل أحدًا عن وعي إلى عقلك، وهذا عكس ما أُدخل إليك من غير وعي، بتقليد المحيط وأهدافه، وفي كلّ مرّة تختارُ كتابًا وتقرأ، أنت تُجيب على "لماذا هذا يهمّ أصلًا" بطريقة غير مباشرة، فاختياراتك تحدّد لك ما هو مهم، وفوق هذا قد يبثّك الكاتب بشيء من أفكاره، وهذا البثّ آمن، لأنّه يجري ببطئ على مدى صفحات طويلة، وليس فيه مخاطرة، فإن لم يُعجبك الكتاب فدعه وينتهي.