بسم الله الرحمن الرحيم
الصداقة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
إن الصداقة قد تعني بشكل عام كل ما قد يحدث بين الأصدقاء من صُحبة، ودعم، ومساعدة، ورفقة، وصراحة، وحتى من مشاجرات، ومشاحنات، واستفزاز قليل لبعضهم بعضاً. ورغم أنه قد تكون الصداقة بهذه الشاكلة البريئة والعفوية محببة وتُثير بعض المشاعر الممتعة والمسلّية. ولكن قد لا يكون هناك ضرر من أن يتم التنبيه لبعض الأمور التي قد تساعد على دوام الصداقة الطيّبة واستمرارها إن شاء الله، حيث إن كثير من الصداقات قد انتهت إلى بغضاء وكُره بسبب المبالغة في بعض تلك الصفات التي ذكرناها، وتجاوز بعض الحدود بينهم وبين بعضهم.
ولهذا فللمرء أن يستمتع بصداقاته لكن مع وضع بعض الحدود لنفسه لألّى يُسيء إلى أصدقائه ولألّى يتمادى معهم في مزاح ثقيل أو غير مُحبب. كما يمكنه أن يضع الحدود لأصدقائه وله أن يُصرّح ببعضها لهم في المناسبات المختلفة، دون أن يظهر وكأنه يفرض شروط لصداقته، فالنبيه من أصدقائه قد يفهم تلك الحدود ويقرر ألا يتجاوزها مع صديقه، لألّى يُسيء إليه أو يتسبب بقطع الصداقة بينهما، والبعض قد لا يُبالي، ويُفضّل أن تبقى الأمور عفوية دون الالتفات إلى الحدود التي وضعوها أصدقائه له. فللمرء أن يقرّب ويثق بعض الشيء لمن احترم الحدود ويمكنه أن يرفع من مستوى الصداقة بينهما لأن صديقه أثبت بالفعل إنه محل ثقة، ويمكن الاعتماد عليه، حتى إنه قد تصل علاقة الصداقة بينهما إلى مشاركة تجارية أو مشاركة في أي مشروع حسَن يريد المرء القيام به.
أما الصديق الذي لم يُعِر بالاً لحدود صديقه ولم يبالي بمشاعر صديقه في تجاوزه الحدود مرّات متكررة، فللمرء أن ينتظر ويصبر على صديقه لحين يلتزم بالحدود، فلعلّه يكون غير مُعتاد على وضع أي حدود بينه وبين أصدقائه وقد يكون غير معتاد على الالتزام بأي حدود، بحجّة إنهم شباب وأن الحدود بين الأصدقاء ما هو إلا من فعل الكبار والشيوخ. بل قد يرى أن الحدود تُفسِد الصداقات فلا يُبالي بها، وقد يقول بينه وبين نفسه: هذا أنا وهذه طبيعتي فمن تقبّلني كما أنا فسأصادقه ومن رفض طبيعتي فليس لي حاجة في صداقته. فيبدأ بعدها بتجاوز الحدود إما عفوياً وإما متعمّداً، ليُثبِت نفسه أمام أصدقائه، وحينها قد تصل الأمور إلى المشاحنات والمشاجرات. فللمرء حينها ألا يُثقل على هذا الصديق، ويتركه يتصرّف كما يشاء ما دام لا يتوقّع أن تكون صداقته مع هذا الصديق كعلاقة ملك وساعده الأيمن، أو كعلاقة جنديان رفيقان يحمي كلّاً منهما حياة الآخر، ولكن كعلاقة صداقة عفوية وبسيطة يمكن أن يستمتع بها ويشرح بها صدره، وإن كان صديقه مُحبّاً له بالفعل ولا يريد خسارة صداقته ولكنه فقط لا يحب وضع أي حدود، فللمرء أن يُطوّر تلك الصداقة لتكون ممتعة ومسلّية أكثر كالقيام بالنشاطات المختلفة معاً، والقيام بالرحلات المسلّية. ولكن قد يكون من الأفضل له ألا يتوقّع كثيراً من صديقه هذا تفانياً في علاقة الصداقة بينهما سواءً في السرّاء أو في الضرّاء، لأن صديقه هذا قد لا يرى بأنه مُلزم بأي شيء لصاحبه وصديقه وأن الصداقة بينهما ليست إلّا لقضاء الوقت والتسلّي وليست التزاماً بمساعدة صديقه في السرّاء أو حتى في الضرّاء.
فللمرء أن يستمتع بصداقة هذا الصديق ويستمتع بالوقت الذي يقضيه معه، فقد يكون في الأغلب إن لم يطوّر صديقه من عقليته ويتحمّل بعض المسؤولية في علاقات الصداقة التي لديه مع أصدقائه، فقد تنتهي صداقاته سريعاً، وإن طالت صداقاته فقد لا يكون لها أي وزن حقيقي وإنما مجرّد صداقة للّهو والتسلية لا أكثر.
وللمرء أن يستغل أمثال هؤلاء الأصدقاء المؤقّتين أو السريعين الزوال، بأن يتعلّم معهم الصبر والأخلاق الحميدة، فيُقابل أحياناً إساءاتهم إليه بالعفو والصفح واللطف والردّ عليهم بالخير، ليرى إلى أي مدى يمكنه أن يصل في صبره ومسامحته لهؤلاء الأصدقاء، وله أن يُطوّر من أخلاقه وصبره معهم ليرتقي بنفسه وله أن يُطبّق ما تعلّمه من خير وصبر على أصدقائه الثقة الذين يتوقّع منهم أن يواصلوا علاقات الصداقة معه لفترة طويلة أو يريد أن يحتفظ بالفعل بصداقتهم إلى أقصى مدى.
وللمرء ألا يبقى احياناً مراقباً لأخطاء أصدقائه ليُعاقبهم عليها أو ليلومهم عليها أو لأجل أن يقطع علاقاته معهم، ولكن بدلاً عن ذلك له أن يتعرّف احياناً على شخصيات أصدقائه ويستمتع بتنوّع شخصياتهم، وفي نفس الوقت يتعرّف على شخصياتهم المختلفة ليستطيع التعامل معها أو مع اشباهها إذا ما واجهها في أوقات أخرى خاصّة أثناء العمل والمشاريع المختلفة، فيعرف احياناً كيف له أن يتصرّف مع بعض الشخصيات التي يقابلها مما تعلّمه من أصدقائه ومن تعامله معهم.
وفي الختام، فإن مقابلة المرء كل صديق بالمثل والردّ عليه بالمثل، قد لا يكون مشجعاً للأصدقاء بأن يواصلوا صداقتهم معه، ولكن له أن يجعل من صداقاته مدرسة له لتعلّم كيفية التخلّق ببعض الأخلاق الحميدة، فله أن يردّ أحياناً على الإساءة بالإحسان، وله أن يردّ أحياناً على الاستهزاء به بالابتسامة أو حتى بالضحك، إن أثار ذلك ضحكه، فما يميّز الأصدقاء وخاصّة الشباب منهم هو اندفاعهم في الأقوال والأفعال والذي قد يُثير بالفعل الضحك والمُتعة. وإن أبت نفس المرء إلّا أن تردّ على أصدقائه بالمثل، فله أن يحتال لنفسه هذا الحيلة، بأن يحاول مكافئة أصدقائه والردّ عليهم بما استفاده منهم أو تعلّمه منهم، فإن كان صديقه مقصّراً في أمرٍ ما في حقّه أو أساء إليه على نحوٍ ما، فله أن يحاول أن يتذكّر بعض محاسن صديقه أو شيء تعلّمه منه بطريقة ما حتى إذا كانت غير مقصودة، أو حتى أن يتذكّر مدى استمتاعه بمرافقة صديقه هذا، فيضع من ذلك الخير مقابل الإساءة أو التقصير من هذا الصديق، فيكون بذلك قد أرضى نفسه اللّحوحة في الردّ على أصدقائه بالمثل أو بالأصح قام بالردّ عليهم بما يساوي حجم إساءتهم له أو بحجم تقصيرهم في حقه دون أن يخسر صداقتهم أو دون أن يُسيء إليهم... هذا والله أعلم.
التعليقات