تَعالتْ أصوَاتُ الصُراخِ تحتَ نُورِ القَمرْ الخَافِت، كانَّ كُل الذِي يُمكن فَهمهُ مِن هَاتهِ الفَاجِعَة، أَنَ شِجارًا ثَانِي قَد إِندلعَ لَهيبهُ وَسَط سُكونِ الليّلِ..

فَتحتُ عَينيَا إِثرَ إِرتفَاعِ صَوتِ صُرَاخهُمَا، وَ كذَا ايضًا بُكاء أُختِي الرَضيعة النَائمَة بِقربِي، غَادرتُ مَخدعِي مُنزعِجًا مِن الوضعِ الذِي انَا فِيهْ، حَملتُها قَليلاً إِلاَ ان هَدأتْ ثُم اعَدتُها مُجددًا للفِراش

تَقدمتُ بعدَها نَحو البَابِ بِخطُواتٍ مُرتَابَة، فَقد وَصلَ لِمسامِعي صَوتُ سُقوط شَيءٍ مَا، فَتحتُه قَليلاً ثُم شَقَقتُ طَريقِي نَاحيةَ الصَالة..

هدُوء غَريب حَاوطَ البَيت بِأكمَله، كانَ السُكونُ باسطًا كَفيهِ عَلي وَ الخَوفُ يَملأُني رُهبة، فَمن ذَا قَديرٌ عَلى إسكَاتهُما وَسطَ شِجارِهما؟! اللّٰهمَ إِن كانَ مِن الجِن رُبمَا، او مُعجزةٌ مِن نوعٍ مَا سَقطتْ عَليهُما مِن السَماءِ لِتهوِي فَوقَ رَأسيهُما، فَساعدَت علَى اخمَادِ لهيبِ غَضبهُما!

سُرعانَ مَاقابلَني بابُ الصَالةِ المَهترِىء، كانَ مَفتوحًا قَليلاً، لذَا قمتُ فَقط بِدفعهِ بِيدي و الدُلوفِ للدَاخلِ مُتفقدًا الوَضعَ..

لكِن الذّي لَم اضَع لهُ حسبانًا هُو رُؤيتِي لهَا 

مَرميةً علَى الارضِ! بِشالهَا الاَحمر الحَريرِي، مُنسدِحةً علَى الارضِ وَسطَ دِمائهَا القُرمزية!

" لا...رَجاءاً لا...لا تُخبرينِي أنكِ..."

عَجلتُ بِخطُواتِي وَ إرتَميتُ بِنفسِي عَليهَا، بَينمَا اتَفقد و اتحَسسُ وَجهها المُغمَض العَينينِ، تَعلقتُ بِكفهَا و دُموعِي تَغمرُ عَيناي حَائلةً بينِي و بَين الرُؤيةِ.. أترجَاكِ ان تَبقِي بِجانِبي يَاأُماه فلاَ سِواك لِي!!

" إِستيقِظي..لِمن ستترُكينِي؟! لِمن ستترُكينِي؟! بِحقِّ الإلّه إستيقِظي!! "

 لا فَائدة.. لا فَائدة مِن صُراخِي..

تَفقَدتُ علَى عَجل نَبضَ قلبِها ليتَعالى صَوتُ شهَقاتِي و بُكائِي، الى اينَ انتِ رَاحِلة بينمَا تَتركِينني خلفكِ هَا هُنَا؟!

كانَّ عَالمِي و رُغم بَهاتَتهِ و سَيئاتهِ مَليئًا بِالالوانِ فِي حَضرَتكِ، إِبتسامَتكُ كانّت سببَ مُقاوَمتِي و عَيشِي لِمثلِ هَذا الوَاقعِ المَرير! فَبدونِك هَذا الجَسدُ سَيغدُو فَارغًا فَاقدًا لجميعِ المَعانِي، بِلا رُوحٍ إِن صَح التَعبِير..

فَكيفَ يحقُ لكِ إذًا الرَحيلُ عنِي، إنِي انَاجيكِ بِصرَاخِي و نَديبِي ألاَ تَرحلِي!! لاَ تترُكينِي هَاهُنا كَمن يُناجِي المَوتَّ ان يُعجلَ اللِقاء!

"ابتَعد عَنها!"

كَلمنِي صَاحبُ الصَوتِ الجُهورِي بِلهجةٍ باردَة، استَدرتُ لهُ لتتقَابلَ أعيُننَا، شَعرتُ بِرجفَة خَوفٍ تَسرِي بِجسدِي حِين لَمحتُ السِكينَ بِيدِه.. كَان هُو!

أَمسكَني مِن يَاقتِي و حَملنِي عَاليًا لِيرمِي بِي عُرض الحَائِط، احسستُ و كَأن عِظامِي قَد تَكسرَت لِمليُونِ قِطعَة.. و مَعها قَد إنكَسرَ قَلبِي

"مَاذنبُها لتتلَقى مِثلَ هذِه النِهايَة، مَالذِي فعَلتهُ لكَ بِحقِ الجَحيم؟! ألاَ تَملكُ ذَرة رَحمَة بِقلبكَ تِجاههَا!"

تَكلمتُ بِشحْنةٍ مِن الشَجاعَة اِجتَاحتْ رُوحِي علَى غَفلَة..

لَم يُجبني.. هَو فقَط اكتَفى بِسحبِها بَعيدًا عنِي، يَنويِ تَخبئَة خَطيئَتهِ بَعيدًا عَن اعينِ النَاس، و لَن استغرِب رُبمَا ان كُنت انَا هُو ضَحيتُه التَاليةَ!

انَا حتَى لَم اتَمكَن مِن رُؤية مَراسِم دَفنِها.. 

تَنهدتُ بيأسٍ مِن مثلِ هَذهِ الحَياة اللَّعِينَة!

كيفَ تَستطِيعُ الايَام تَغييرَ نَفسِها سَريعًا هكَذا؟! رُبما يُخالِجني اليَأس، او الخَوف، و رُبما الحسَد.

املِكُ رَغبَة دَفينَة بِالهرَب مِن كُل هَذا و النَجاةَ بِنفسِي.. مِمَا أهرُب؟! مِنهُ او مِن نَفسِي التِي لَم تَستطِع الوُقوفَ أَمامَهُ و الدِفاعَ عنهَا رُبمَا؟..

رُويدًا رُويدًا و قَبل ان أُدركَ اقبَلتْ عَلينَا الشَمسُ مُنيرةً صَفحَة السَماء، أَبحرتُ بِكلُ ذلكَ الوَقتِ المَاضِي مَعا أفكَارِي الى اللاَمكَان، حَيثُ لا احَد يَرانِي وَلا احَد يَعرفُ حَقيقَة أحَاسيسِي الهَائِجةَ..

سَمعتُ بَاب المَنزلِ يَنفتِحُ مَجددًا، لِيدخُل منهُ ذَلكَ المُسمَى والدِي، علَى مايبدُو هو قَد أنهَى عَملهُ

"سَيكونُ جَمِيلاً منكَ الالتِزامُ بِالصمتِ، او سَتلاقِي نَفس مَصيرِهَا"

هَددنِي و هُو يرمِي بِجرَة مَاءٍ فَارغَة وَقعَت مُنكَسرَة بِجانِبي، حَدقتُ فِيه لثَوانِي قَبلَ ان أُعيدَ تَركِيزي الى الفَراغ!

لا أحَد يَستطِيعُ إِدرَاكَ مَا أَشعُر بِه سِوَاي..

لا أحَد يَستطِيعُ إدرَاكَ كَم مِن المُرهِق عَدمُ الشُعورِ بِالوَقتِ..

لَم تَكُن الاُمورُ مُنذ وِلادَتي بِالرقِيقة بَتاتًا.. بَل كُنت انَا الذِي مَنحهَا تِلكَ الرِقة، كُل هَذا كانَّ فَقط مِن مُخيِلتي و هَذيانِي!

لاشَيء جَيدٌ بِالفقرِ و المُعانَاة، ولاَ جَمالَ بِأبوينِ يَبغضان بَعضهُما البَعض لِحد قَتلِ احَدِهمَا الاخَر..

أَسفِي لكِ يَاأختَاه لِولاَدتكِ بِمثلِ هَذهِ الحَياة! أُعذرِيني فَأخوكِ الاكبَر ليسَ بِالقوِي حتَى يَقدِر علَى مُتابَعةِ مِثل هَذهِ اللُعبة الخَاسِرة مَعكِ.

مُنذ البِدايَة كانَّ كُل شَيءٍ يَدفعُني للزَاويَة، يَقبعُني رُغمًا عنِي..

فَليكُن المَوت نِهايتِي، ان كُنت سَأحيى لأعِيشَ وَاقعًا رَماديًا كَهذا، فَلتسمَحِي لاخِيك الابلَه ان يَموتَ الى جِوار وَالدتِنا، دَاعيًا مِن رَبهِ ان يُلاقِيه بِها بَعد المَوت!..