تفتِّشُ عيوني، في ميعادِ ميلادها السَّنوي، عن رنيــم.

أول مرَّةٍ تعلَّمتْ كيف تكتبُ اسمها؛

فصارت تلصقهُ على كلِّ كرَّاسةٍ

وعلى كل جِدار

يصرخُ الجميعُ في وجهِها :

وما فَتِئَتْ تكتبهُ دون وَجل.

عن أول مرَّةٍ قرَأَتْ بها الفاتحة بلا تعتعةٍ

و صَلَّت بها

نظرت عيونها نحو السَّماء

وأُلقِيَ في قلبها معنى أن تَعبُدَ، حتَّى وإن لم تَرَ هذا المعبُود !

أول مرَّةٍ رجَعت فيها من المدرسة تبكي

من تمييزٍ

أو حقٍ لم تعرِفْ كيف تأخذهُ

فواسطت أُمَّها كي تستعيدهُ

فتلقَّت درسها الأول: الدِّفاع عن نفسِها يبدأُ من حُنجرتها

لا من أفواهِ العشيرة.

أول مرَّةٍ صاحَبَتْ فيها

و رَأَت كيف للنَّفسِ أن تتشاركَ مع اثنين وثلاث وأربع

وجدتْ في روحِها جناحًا و متَّسع.

أول مرَّةٍ تقتنصُ الخوفَ من شِباكهِ وترمي له ألف سمكة

وتَحكي

وتَكتب

وتُغنِّي

وتُحبُّ

و تنجرحُ يداها من التَّشبثِ

تسحُّ عيونَها آبارًا

وتنثرُ سطورَها أشعارًا.

أول مرَّةٍ تُخذَل ويُكشَف عن شمسِها الحِجاب

وَدَّعَت و وُدِّعَت

بلا جنازةٍ، بلا اعتراف، ولا جَواب.

أول مرَّةٍ تسافرُ بعيدًا عن وطنها

يهبطُ جسدها في موطِئٍ غريبٍ

وتبقى روحها عالقة على الحُدودِ

تبحثُ في حقيبةِ السَّفرِ عن صورةٍ واحدةٍ

في وطنٍ

يفتقرُ لرائحةِ الوطنِ.

أول مرَّةٍ

قالوا لها : سنتركُ البيت.

عندها لمستْ لأول مرَّةٍ حقيقة هذا الكون:

كلُّ شيءٍ يرحلُ ويتغيرُ

تركتْ بيت الطُّفولة وفطمَها الزَّمانُ عن البكاءِ؛

وبقيَ الحنينُ قرينًا أسودًا لا يُفارقها

رحلنا

تغيَّرنا

وللحنينِ بقيَّة.

أول مرَّةٍ تتسمَّرُ في قلبٍ

وتمتدُ ظلالها في ذاكرةٍ

ولا شاهدَ عيانٍ على أثرٍ

إنَّما هي بصمةُ روحٍ

مهما ذَرَتْ السِّنين و الأيام

وراحَت وجاءَت معها الأَنام.

أول مرَّةٍ

شعرت أنَّ الله يحبُّها

يسمعُها

يرشدُها

ويقبلُها كما هي برداءِ الذَّنب

قبل أن تذرفَ له الحِجَّة والسَّبب.

أول مرّةٍ سأكتب عنكِ ومن أجلكِ،

أرقبُ أطوارَ صُنعكِ — من فسيلةٍ إلى أُملودٍ طريّ،

ينضحُ برقَّتهِ حينًا، وينضبُ بخشونتهِ حينًا آخر.

وآخر مرَّةٍ

تجلسُ قُربَ رنيم الصَّغيرة

بالحسْرةِ

والحِيرة

مرَّة واحدة

جئِتُ في العمرِ

مرَّة واحدة

فعلام أَهبهُ للشّاردة والواردة

وعلى كلِّ صغيرةٍ وكبيرة.

واليوم قد أعددتُ مراكبي

وأبحرتُ نحوَه وحدَه

اللهُ ربِّي

وربُّ قلبي

وسيّري في الحياة سُدى

وعِلمي لو طَوَّقتهُ لنفسي ما جَنى

ونَفْح خيري إن ادخرتهُ للعالمين دون ربِّهم

ما لهُ من شذى

و خليلي إن فاقَت محبَّته المدى

لأهلكَ الفُؤاد ولقيتُ حتفي والرَّدى

إختباري في الدُّنيا طُهرٌ ورِفعةٌ

فسألتُ الله الصَّبر و الرِّضا.

روحي قاحلة

ويدي تَمسِكُ دفَّتَي السَّفينة

لستُ بعزمِ نوح

لكنِّي تعلمتُ سرًّا منذُ كنتُ طفلة

من صَدَقَ مع الله

كان لهُ منجاةً

ولجسدهِ الهشيم رُوح.

٢٦ | تشرين الثاني | ٢٠٢٥