كانت الرياح أبرد بكثير مما توقعت. إعتقدت لولهلة أنني بالقرب من القطب الشمالي. هذه الرياح تنهب أي حرارة في جسمك. عند التحاقي بفاطمة كنت أرتجف، كان من الصعب علي أن أتحكم في حركة يدي أو حتى أن أمشي بدون التمايل. كان الزوجان لا يزالان يقفان بجانب سيارتهما ويطلان على الحديقة. وكانت أشجار الحديقة لا تزال تنحني تعظيما لهذه العاصفة.

"آآي" صرخت فاطمة تجاه الزوجين. "الوضع ليس آمنًا هنا. عليكما أن تأتيا معنا ".

كنا في منتصف الطريق من موقف السيارات، ربما على بعد 50 مترا من الزوجين. لم يسمعوا فاطمة. أو ربما تجاهلوها. فاجأنا برق أرجواني عبر الغطاء السحابي. كان هناك صوت رعد لكنه بدا مشوشا، كما لو أن شخصًا ما قام بتسجيله وتشغيله بطريقة عكسية. لا توجد أي قطرات مطر حتى الآن.

واصلنا تقدمنا أنا وفاطمة، منحنين وبخطوات بطيئة. كان كلانا يتنفس بصعوبة عندما عبرنا ساحة موقف السيارات. كانت الريح تسرق الهواء مباشرة من فمك. كما صعّبت الرائحة الكريهة استنشاق الهواء من الأنف، مما جعل كل شيء أكثر بؤسًا وكآبة.

أضاءت صاعقة أخرى من البرق البنفسجي موقف السيارات. توقفت أنا وفاطمة.لقد رأينا الظلال، نعم لقد رأينا الظلال، لكن لقد رأينا ما يقارب من تسعة ضلال تحيط بنا من كل جانب.

"فطوم!!" همست لها وكأني لا أريد أن أوقظ هته الظلال، "لقد رأيتهم".

كانت الظلال ساكنة. تشاركت أنا وفاطمة نظرة قصيرة. لكن لا أعتقد أن أيًا منا كان متحمسا للمرور بينها. عاد البرق مرة أخرى وتبخرت الظلال للحظة ثم عادت أقرب بكثير. وبدلا من تسعة؛ كان هناك العشرات.

همهمت فاطمت بكلمات لم أستطع سماعها بسبب الرياح، لكن بدى أنها تشتم هته الظلال.

ركضت، وتبعتها حتى تجاوزنا الظلال. كان الأمر أشبه بالمرور عبر مزيج من الرمل وشيء لزج كالزيت. تبدد البرد الناتج عن الريح بفعل حرارة غريبة لبضع ثوانٍ ، لدرجة أنني استعدت قدرتي على التنفس. بمجرد أن تجاوزنا الظلال، انخفضت درجة الحرارة كما كانت.

بدأت أرتجف مرة أخرى، ليس فقط من البرد. لكن من المزيد من الرعد الرهيب. والمزيد من البرق. كانت الرياح الغربية كأنها تحاول اسقاطي مع كل خطوة أخطوها.

"علينا أن نعود" صرخت على روزانا.

هزت رأسها وشعرها الداكن يطير في مهب الريح. "أصبحنا قريبين!! سينعيدهم معنا ".

لم يتحرك الزوجان من موقعهما على جانبي السيارة. كانا كلاهما يحدقان في شيء ما في الحديقة ، تمامًا كما كانا قبل عدة دقائق. في الواقع، لا يبدو أن أيًا منهما قد تحرك ولو قليلا، نفس لغة الجسد ، نفس تعابير الوجه، نفس كل شيء .

"هناك شيء غريب" قلت وأنا بصدد التوقف.

كانت روزانا تحاول رمي خطواتها الصغيرة نحو الزوجين. "ماذا تقول؟"

"نحن بحاجة ل..."

ضاعت بقية كلماتي بعد اندفاع المياه. كانت السماء تمطر أخيرًا. لقد نفذ الوقت.

"هيا!" صرخت مادًا يدي إلى فاطمة. كانت بعيدة جدًا ولا تزال تتحرك نحو الزوجين.

لم يسبق لي أن وجدت نفسي تحت المطر خلال عاصفة رياح جنوبية من قبل. إنها ليست تجربة أرغب الخوض فيها. نزلت القطرات باردة وزيتية. كانت هناك حرقة، كأن جلدك بالقرب من شمعة وانتبهت له لتو. وأصبحت الرائحة المتعفنة أسوأ بكثير.

بالكاد استطعت أن أرى من بين الأمطار واصطدمت بظهر فاطمة. كانت ترتجف.

سألتها "هل تشعرين بالبرد؟".

هزت رأسها. نظرت إلى ما وراءها وانتبهت. لقد انتقل الزوجان. الآن هم يقفون على حافة موقف السيارات بين المطعم والحديقة المواجهة لنا. كل شيء عن مميزاتهما كان ممحيا. لا توجد أي تجاعيد على وجهيهما إطلاقا، ناعمة كأنها نموذج ثلاثي الأبعاد. حتى في المطر، استطيع أن أرى العينين والأنف والشفاه، كانت كلها مثالية بشكل مرعب ومتشابهة جدًا. مثل الدمى.

"لقد كانت خدعة" همست روزانا والقلق بادٍ على صوتها.

أحسست بشيء يمسك بساقي. نظرت للأسفل. لا شيئ. العدم حرفيا، جسم شفاف فارغ من الهواء على شكل إنسان زاحف محاط بالمطر. أصدرت روزانا صوتًا مثل الأنين. كانت هناك العشرات من هته الأشكال غير المرئية في كل مكان حولنا ، تزحف، تعرج، وتقترب ببطء.

"فطوم" ، مددت يدي إلى يدها. "يجب أن نذهب."

حاولت سحبها لكنها لم تتحرك. بدأت فاطمة بإصدار صوت اختناق.

"فاطمة؟؟"

تقدمت إلى الأمام قليلا ورأيته. كان أحد تلك الأشكال لها يضغط على حلقها، ولف شيء آخر غير مرئي حول ساقها. حاولت أن أركلها ولكن لم أستطع الشعور به. مرت قدمي خلال المطر ، شعرت فقط وكأن المطر لم يصل لقدمي للحظة، ثم عادت إلى الماء. حدث نفس التأثير عندما حاولت نزع ذلك الشيء الذي يخنق فاطمة. كان الأمر كما لو أن المخلوقات كانت موجودة فقط عندما أرادت أن تكون.

لم يكن لدي أي خيارات أخرى، حملت فاطمة. كانت صغيرة وخفيفة ولا تزال تختنق. ركضت حوالي ثمانية أقدام قبل أن تضغط قبضة على ساقي. شعرت بألم كبير وكأن كلبا عضني. صرخت وسرق الريح صوتي. ثقبت المزيد من الأسنان غير المرئية في ذراعي وظهري وحتى عيني. كانت روزانا تتشنج وكان كل ما بوسعي فعله هو أن لا أسقط، لم أستطع التقدم. ثم أصابني ضغط رهيب فكي وشعرت بأن فمي ينفتح بالقوة.

علمت أنني سأموت. كنت آمل أن يكون الموت سريعا. كل شيء بداخلي كان يمزق، ينكسر، وكلما صرخت كنت أشعر بزوال قوّتي. ثم بدأت بعض الأفكار التي لم تكن لي تخطر لي كأنني أحمِّلها. أفكار عنيفة. وكوابيس مروعة.

شعرت بيدين قويتين مرة أخرى، لم تكن مؤذية هذه المرة. استدرت بعيون يملأها الضباب ورأيت رجلاً بجانبي وفاطمة.

كان أحمد.

"أركض هيا" صرخ في وجهي وهو يحمل فطوم فوق كتف، ويدعمني بذراعه الأخرى.

بدأ العض يسوء ودفعتني الريح للخلف كأنها تحاول تثبيطي لكنني ركضت. كنت أتنقل وأتعثر كل مرة حاول أحد الأشكال التشبث في جسمي، لكني ركضت بأسرع ما يمكن. بدى أن الأمر وكأن استغرق عامًا لعبور موقف السيارات لكن عدنا جميعًا إلى داخل المطعم. في اللحظة التي أغلق فيها الباب خلفي، ذهب كل الألم والضغط. كانت الريح بالخارج لكنها لم تستطع الدخول.

كان أحمد شاحبًا ويلهث ولكنه بخير على الرغم من ذلك. وضع فاطمة فوق طاولة من الطاولات. كانت ترتجف من البرد والخوف.

انحنيت نحوها ولمست ذراعها. "فطوم"

نظرت إلي بعيون خضراء.

"ستنتهي العاصفة قريبًا" قالت بصوت يملأه الألم.

الجزء الأول