بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب ( (ابن رشد) تلخيص منطق أرسطو) (المجلد الأول) (سلسلة علم المنطق)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
كتاب ( (ابن رشد) تلخيص منطق أرسطو) (المُجَلّد الأوَّل) (سلسلة علم المنطق), دراسة وتحقيق: د. جيرار جهامي، الطبعة الأولى 1992، دار الفكر اللبناني، بيروت.
1- (وقد لاحت بوادر هذه المشكلة اللغوية مع المترجمين والنقلة الذين عاشوا صعوبات جمة اعترضت سبيلهم حين أرادوا نقل الفكر اليوناني إلى العربية. ومن ابرز هذه الصعوبات: الفوارق بين تركيب الجملة في اللغتين، وعدم إيجاد الالفاظ والتعابير الفلسفية المناسبة في العربية لافتقار اللغة احياناً اليها. وهذا ما ادّى إلى عدم التوصل إلى ضبط ابعاد المسائل بكلمات مقابلة، فلجأوا إلى طريقة شرح المعاني عوضاً عن ترجمتها احياناً. وفي هذا المنحى خص جورج مونان مصنفاً للبحث في المشاكل النظرية التي تعترض الترجمة والمترجمين، ورأى أن هنالك عقبات لغوية تمنع الأداء الوفي للنص المترجم، ذلك أن لكل لغة طريقة خاصة في عرض معالم الكون وتفسيرها). الصفحة (87-88).
2- (وحال ابن رشد هذه هي حال الفلسفة العربية منذ ولادتها، يوم راح الكندي يفتش عن الفاظ تسد عجز اللغة في التعبير عن مصطلحات الفلسفة اليونانية، فاشتق الهوية من "هو" والماهية من "ما هو" واستعمل "الايس" "والليس" للدلالة على لفظي "الوجود" و "العدم"، وهذه أمور غريبة عن لغة الضاد التي تمنع الاشتقاق عن الجوامد. واضطر الفارابي إلى أن يضع قاموساً خاصاً في الفاظ المنطق لتثبيت معانيه وتسهيل استعمالها في التفسير والنقل، وذلك للتقرّب من معاني الفلسفة الارسطية. ولم تكن حال مصطلحات الماورائيات افضل.
ومجمل القول أن ابن رشد الشارح لم يتجرأ على تجاوز معطيات منطق المعلم الأول، بل اكتفى بالتفسير والمقابلة بين الآراء والمذاهب، وذلك عبر صيغ تقليدية وخاصة احياناً. وهنا تكمن الصعوبة في تحديد منحى خاصاً عنده. ولهذا نضطر إلى تحليل المنحى الماورائي في تفسيره للمنطق الارسطي، كما اضطر دارسو المنطق سابقاً إلى بحث هذا الاتجاه عند ارسطو نفسه، إلى جانب الاتجاه الصوري). الصفحة (108-109).
3- (... فإذا كانت مقولات ارسطو نابعة من مفاهيم ماورائية فذلك يصدق على مقولات ابن رشد. وإذا صدق الحكم في كون ارسطو استغراقياً في مبحثه للقضية ولعلاقة الموضوع بالمحمول فيها، كان ذلك صادقاً على مفهوم ابن رشد للقضية. واذا كان صحيحاً ان ارسطو عوّل على مبادئ ما ورائية ومسلّمات أولية في تركيزه البرهان والعلم البرهاني، فإن ابن رشد لم يغيّر في ذلك شيئاً أو يبدّل، همه في ذلك همّ الشارح الوفي للنص الذي يفسّره). الصفحة (111).
4- (المنحى العملي والوضعي:
من ابرز المسائل التي أثيرت حول ماهية المنطق عامة هي مسألة طبيعيته: هل هو يقتصر على كونه آلة تساعد الفكر على التمييز بين الخطأ والصواب في الاحكام؟ ام ان له اغراضاً عملية مادية مثل سائر العلوم الوضعية؟ ام انه يستطيع الجمع بين الغرضين معاً؟
في الواقع لم يكن المنطق الارسطي سوى آلة تعصم الفكر عن الزلل وتساعد على التمحيص في العلوم كافة مدخلاً اليها. ولذا فأن ارسطو لم يعدّه حتى بين العلوم النظرية كالحساب والفيزياء. بينما نرى الفارابي يعتبر المنطق آلة قانونية تعصم الانسان عن الضلال في التفكير، وهو "علم يتعلم فيه ضروب الانتقالات من أمور حاصلة في ذهن الانسان إلى أمور مستحصلة". وغايته عملية ايضاً اذ انه يبحث في البرهان والجدل والخطابة والشعر. اما الغزالي فقد عدّه ميزاناً ومعياراً للعلوم.
وقد جمع الباحثون اليوم أغراض المنطق بما يلي:
- انه آلة أو صناعة، أي انه لا يقصد لذاته وانما يمكن ان نستفيد منه عملياً.
- انه علم نظري ذو قواعد واصول فكرية.
- انه فن للفهم ذو منحى تعليمي.
اين تقع نظرة ابن رشد إلى المنطق من هذه الرؤى؟ اننا لا نقع عند ابن رشد على نص صريح يثبت لنا نظرته إلى طبيعة المنطق اجمالاً. لكننا نستشف ذلك من خلال التعابير التي استعملها للدلالة على فوائد المنطق وعلى مختلف تطبيقاته العملية. فالمنطق بالنسبة اليه، كما بالنسبة إلى مناطقة العرب، هو صناعة، كما ان الجدل صناعة "لي تقصد تبيّن شيء مخصوص بعينه ولا لها موضوع". فابن رشد لم يتناول قط المنطق واقسامه ومواضيعه قوانين وبراهين فكرية فحسب، بل تداول اغراضه عارضاً لمنافعها في العمليات ايضاً). الصفحة (113-114).
5- (لذا فنحن نقول ان ابن رشد لم يفلح في نصه هذا بتوجيه المنطق الارسطي نحو احد هذه المناحي او تركيزه باتجاه واحد، بل هو قد عكس لنا مختلف التيارات الارسطية واللارسطية فيه. وادلتنا على ذلك كثيرة. منها انه تناول منطق ارسطو بواقعه والمّ بأبعاده كافة، غير مركز على واحد منها، بل آخذاً بجميع نواحيها: النظرية والعملية، الماورائية والصورية، اللغوية والجدلية... ثم انه اخذ بآراء معظم شراح ارسطو من ثاوفرسطس إلى ثامسطيوس عند اليونان، ومن الفارابي إلى ابن سينا عند العرب؛ فهو مع انتقاده شروحات معظمهم وتعليقاتهم على اختلافها، تأثر بطرق ابحاثهم وتعابيرهم ونظرياتهم. ولم يكتف ابن رشد بهذا القدر من المزج، بل انه ادخل احياناً مبادئ واصولاً غريبة على آراء المعلم الأول). الصفحة (117).
6- (انه مهما قيل ويقال عن المنطق الارسطي لدى فلاسفة العرب ومفكريهم وحتى متكلميهم، فمن الواضح ان العرب لم يكونوا فيه أصحاب مذهب كما هي حال ارسطو في منطقه. كانوا انتقائيين، برزت عندهم بذور اتجاهات صورية وتجريبية، ولكنها لم تجمع في قوالب واتجاهات كما ورد معنا في تحليل المنطق الارسطي لدى ابن رشد الشارح. وهذا ما نستشفه من اقاويلهم الصريحة حين اجمعوا على ان احداً لم يستطع ولن يستطيع تجاوز تعاليم ارسطو، او بناء مذهب على انقاض مدرسته الفلسفية. فالرجل حي في ضمائرهم، واعجابهم به لا يفوقه اعجاب. ولن ننسى هنا ان هؤلاء الفلاسفة كانوا يعيشون فترة قلق فكري لقوة تداخل التيارات الفلسفية في تياراتهم الفقهية والكلامية، عدا عن كونهم قد ضلوا السبيل مراراً في التمييز بين ارسطو والارسطية عند اليونان. واذا ما القينا نظرة على آثارهم نجد انهم لم يكونوا قد وضعوا نصب اعينهم يوماً هدف الابداع قدر ما ابتغوا كثرة الإنتاج، من شرح وتأليف مصنفات إلى جانب الشروحات، تكون بمثابة المكمل لها أو المتوج لمناحيها. وربما يعود ذلك ايضاً لوفرة النصوص الفلسفية القديمة التي أضحت بمتناول أيديهم بين يوم وآخر. كانوا يودون الفهم والشرح والتلخيص فينتهي العمر قبل الانتقال إلى التحصيل والابتكار. الم نسمع ابن رشد يردد مراراً انه سوف يتطرق لمسألة معينة أو يتوسع فيها "اذا فسّح الله في العمر واطاله"). الصفحة (119).
7- ( (تصدير عام حول تحقيق المخطوطات)
توطئة:
ان الصعوبات التي تواجه الباحث في تاريخ المنطق وتطوره، وانتقاله من بلاد اليونان إلى الشرق العربي ثم إلى الغرب اللاتيني، تعود بخاصة إلى كون منابع هذه الدراسات ما برحت حتى اليوم مهملة ومنسيّة أو محققة جزئياً. والواقع ان مرحلة طويلة من تاريخ الفكر، وهي الفكر الوسيطي، بقيت مطويّة حتى كادت ان تتجاوزها مصنفات تاريخ الفكر والمنطق لصعوبة الاطلاع عليها نصوصاً محققة. لذا لم يصلنا من منطق ارسطو عند العرب الا اليسير اليسير، وما زال السواد الأعظم من مؤلفات المنطق عند العرب مخطوطاً). الصفحة (129).
8- (هنالك بون شاسع بين النصين من حيث التراكيب والتعابير والمفردات المستعملة. فجمل اسحق بن حنين ويحيى بن عدي وابي بشر متى بن يونس الغير الثابتة والغير المركزة الالفاظ تقابلها جملة متينة السبك وذات معان أوضح عند ابن رشد وليس هذا بمستهجن حين نعلم ان هؤلاء التراجمة لاقوا صعوبات عدة اقلّها عدم اتقانهم أو قلة المامهم باللغة المترجم منها، أو اعتمادهم على نصوص منقولة من اليونانية إلى السريانية لنقلها من جديد إلى العربية، بينما اطّلع ابن رشد على هذه الترجمات اولاً وفهمها في ضوء شروحات عدة أضيفت على النصوص الاصلية وتركت له حرية المقابلة والتصرّف في آن معاً). الصفحة (141).
كتاب (تلخيص منطق أرسطو (المُجَلّد الأوَّل) (سلسلة علم المنطق) ), دراسة وتحقيق: د. جيرار جهامي، الطبعة الأولى 1992، دار الفكر اللبناني، بيروت.
التعليقات