سطوة "الحيونة "ومكابدات الخلاص
---------------------------------------
تقديم :
--------
تجسد رواية (مزرعة الحيوانات )لجورج اورويل ملحمة التهافت السياسي، حين تشرع الثورة --بوعودها الوردية في العيش السعيد وبعصاميتها الطهرانية --في سحق الذوات والجموع، مغيبة اشواقها في التغيير والتطوير...يتغذى النص الروائي هنا برمزية عمادها "الحيونة "،متسلمة مقاليد السرد والفعل، ناقضة للادمي وبديلة عنه، ومرتكسة فيما نهت عنه (رغبة منها /رغما عنها )في ظلمات لا تبين :
استبداد ،تزوير، تخوين، تجويع، تسخير....
تاريخ الخيبات مشترك، يتعدى ويتجاوز إنجلترا في الرواية ليطال جغرافيات القهر وتواريخ التسلط
.
1:شخصيات الرواية وادوارها النصية:
--------------------------------- -
تحفل الرواية بكوكبة شخصيات، يسود فيها الحيواني والطيري على الإنساني...حيوانات تألم..تفكر..تحلم..تثور..تحكم فتطغى، وأخرى تكدح..تجوع..ترتقب ولا تفلح أبدا، فيما الشخصيات الآدمية تلغى تملكاتها وتعير بسياساتها، ويتصدى لهجومها، وينفتح عليها في حذر بدافع المصلحة والسمر..
*الشخصيات الآدمية :
-----------------------
مستر جونز :صاحب مزرعة "مانور "/سكير /متخاذل.
مسز جونز: سلبية الحضور (تظهر معاينة للانقلاب الحيواني لتختفي..)
مستر بلنكنجتون : مرفه/من الأعيان /صاحب مزرعة "فوكس وود".
مستر فريدريك : متشدد /ميال للخصومة /الخداع /صاحب مزرعة"بنشفيلد "..
مستر ويمبر: سمسرة /مفاوض تجاري مع الخنازير.
جميعها تلزم مشهدية ثانوية إزاء سطوة حيوانية /خنزيرية، فمن تملك إلى مجاورة..إلى متاجرة ومسامرة، تظل ذوات الرجلين حبيسة القرار والفعل، فيما ذوات الأربع تشرع وترتع..
*الشخصيات الحيوانية :
------------'--------------
_الخنازير :
"ماجور ": الهرم /الحكيم /المقتدر /الملهم .
الخنزيران الشابان:
-"سنوبول : حيوية/فصاحة .
"_نابليون" : ضخامة /دهاء.
_الخنزير"سكويلر" : السمنة /آلة إعلامية..
"مينيميس" : الشاعر /بروباغاندا فنية...
لا سيادة ولاقيادة إلا ما افتت به الخنازير، جلت سياساتها !!!متعلمة، متفهمة، مقررة لحيوات الجموع، مرعبة لمخالفيها، معدمة لمعارضيها، وللثورة إبداعها الخاص والحصري..فهي تبشر بزرع جديد / تليد، فالفحولة لسنوبول ونابليون والاخصاء لما عداها من الخنازير.
_الأحصنة :
"كلوفر" : أم /الطيبة..
"بوكسر" : الجدية /التفاني.
"المهرة مولي " : الشباب /التقاعس /النرجسية.
تشكل بمجموعها خدام الثورة وناصريها والساهرين على تنمية وإنجاح مساعيها،إلا أنها تنسحق حزنا ومرضا وشيخوخة ونفوقا وعقوقا حتى..
_الكلاب :
الكلبتان "بلوبل "و"جيسي".
الكلب "بنشر".
حرس الثورة..الدافع عنها تقولات المغرضين، الشرس كلما لزم الأمر للترعيب والتعذيب..هم فداء لحياة القائد "نابليون "ولو انتزعت صغارها التسعة منها،بهدف التشكيل /التدجين في حضرة الرعاية الخنزيرية.
_الحمار " بنيامين":
معمر/ صموت /عبوس /متحفظ وشاهد متكتم على التبدلات المفزعات والامتساخات المرعبات.
_الغراب "موسى ":
من وضعية الموالاة ل "مستر جونز "إلى العودة بعد غياب طويل للتبشير بوعد الخلاص المأمول و الغائب .
_القطة :
المراوغة والنزقية. .
_الدجاج والحمام :
الإباضة والإنتاج للأولى والوفادات الإخبارية للثانية.
_العنزة "موريل "
_ الغنم :سهلة الاستدراج والتشكيل..
_الأبقار :مصدر تزويد غذائي /الاستحلاب..
2:تجبر الثورة وانكسار الثائرين :
إنها مزرعة لا كالمزرعات، مزرعة للحيوانات، هم ملاكها، مدبروا شؤونها العملية والتنظيمية، في أدوار يغيب عنها الادميون، ولا يعملون إلا على تأثيتها كملاك سابقين أو كدخلاء أو كمتعاونين في قضايا بيع وشراء، أو مسامرين في طقوس أكل وشرب وسهر...إنه الإنقلاب القائم على الإنتصار المفترض للحقوق والكرامة والقطع مع ديكتاتورية الآدمي، الإنقلاب الواعد بالأمل واسترداد التملك..ألم يجهر بها شيخ الخنازير "ماجور" وهو يبث جموع جموع الحيوانات حلمه الثوري، قال:(..الثورة هي رسالتي إليكم أيها الرفاق..)ص:12..ويتم للثورة ما ما أرادت إثر طرد "مستر جونز " من مزرعته وتسلم مقاليد إدارتها والتخطيط لها من طرف الخنزيرين : "سنوبول" ومساعده : نابليون ""، المتقلب بدوره على رفقاء الأمس القريب، مخونا إياهم، مسفها جهودهم..،ويرشح عن الحكم الجديد تراجع مرير _كما هي عادة الوعود السياسية ومعسول خطاباتها _...تبدأ بواقعة استبداد الخنازير بلبن الأبقار والتفاح ليليهما الشعير كضامن للجعة دون باقي الحيوانات، تحت حجة ومشروعية الصحة البدنية والعافية الذهنية لقواد المزرعة وتفكيرهم التنظيمي والتشريعي...
فوعد "ماجور "المنبثق من أحلامه /أحكامه والمغلف بوعود الأمل في بداية الرواية يتحول كابوسا مقيتا في نهايتها، ناشرا رعب التحولات وامتساخ المآلات (السهر والسكر والسمر مع أعداء الأمس /ذوات الرجلين )..كأنما أحلام التغيير سراب /دمار منتشر..
3:الصيغ الزمنية وأبعاد التواتر :
كأنما السارد يترصد أزمنة مسروده، يبئرها بتوالي الفصول والأيام والساعات والشهور، موثقا لأثقالها /انصراماتها وقابضا على معلمها الدال نفسيا ومعيشيا، مفضيا إلى دوران وتيه الذوات والجموع في طاحونة اليومي المكرور..المعيش /المعيب..نشير إلى هذه التجليات الزمنية كمثال ليس إلا..(قضى ماجور نحبه في شهر مارس. .ص:17)..( وفي الدقائق الأولى وقبل أن تفيق الحيوانات..ص:21)..( وأقبل شهر يونيو..ص:20)...وفي الفجر...وبعد موسم الحصاد...في أواخر الصيف..أقبل الشتاء..أقبل الربيع وفي المساء...وبعد ثلاثة أسابيع...
خرائط زمنية تشهد على الاحداث في يقظة ساعاتي نبيه..تبسط العابر والغامر من الوقائع والمعايشات والمكابدات الصامدات /الصامتات، ..وفي إشارة تلطيفية لسطوة هذا التكثيف الزمني من السارد، يقول : ( وفي غفلة من الزمان _وبسهولة لا يمكن لأي أحد تصورها _ انبعثت الثورة )..ص:19/20...
4:موضوعة "الخمرة"(الفاتحة /الخاتمة ):
تبدأ الرواية بسطوة المسكر وإذهاب مروءة وجدية مدمنه "مستر جونز" المفرط في السكر والمفرط لإدارة المزرعة وكذا مداومة ارتياد الحانة كمقر تفكير نشوي بغاية استرداد مزرعته،لتنتهي بجبروت الخمر الحيواني، حين تكرع كؤوسها الخنازير وهي التي نهت عنها وشددت الوعيد على شاربيها في بياناتها التأسيسية حفظا لأخلاقية الثورة وطهرانيتها..
ثمة تراجع ثنائي الخطورة :(منادمة ذوات الرجلين واستبداد بالمشروب وأصله الشعيري )...فلم الاستغراب والصدمة يا حيوانات المزرعة!؟!...يقول لكم الإعلامي المتحدث باسم الخنازير "سكويلر":( لا تصوروا أيها الرفاق أن أعباء الزعامة سهلة...إن الرفيق "نابليون" هو أول من يؤمن بأن الحيوانات كلها سواسية ) ص:48..وهو الذي يبشر بالصلح الآدمي: ( ولم تعد العلاقات بين البشر ومزرعة الحيوانات متوترة كعهدها السابق)..ص:58..
الخمرة هنا تشكل دورة تبدأ بالممنوع والمعيب على الملاك..أصحاب الدار والقرار وتنتهي بالمرغوب والمطلوب من أولي الحكم الجديد..علامة على الانقلابات التي تسند الثورة وتمد في آجالها...___الإنقلاب على "سنوبول " ،الإنقلاب على مبادئ الثورة ، الإنقلاب على خلصاء العمل والاجتهاد ، الإنقلاب في العادات والمسلكيات. ....__ .
5: نافلة الحديث :
يقول" أمبرتو إيكو " في حوار له مع( مجلة: Lire )الفرنسية /عدد: مارس 1996..(أنا عاجز عن حكي شيء لا أعرفه..إن الجزئيات الأكثر غرابة في رواياتي هي الأكثر واقعية..فلا شيء أشد روائية من الواقع. )...ولا يخرج الكتاب الأفذاذ عن فلسفة ما يعتقد به الإيطالي ويكتبه..تلكم حال الإنجليزي "جورج اورويل" الذي صير الواقع بمرارته السياسية والفكرية إلى تخيل تمحي فيه الحدود،وتنقلب الأدوار، ويعاد خلقها من جديد في يقظة فنية /فكرية تشنع على الشموليات. وتنتصر للمنسحقين والضائعين والمستلبين...وأبدع كل الإبداع في حيونة الفعل الآدمي حينما يستنكف عن إنسانيته الضامنة لتماسكه الوجودي والأخلاقي..،ولتاريخ كتابة الرواية / 1945 /كبير الدلالة،لما لهذا التاريخ المفصلي بالنسبة لأوروبا والعالم أجمع من عميق الإشارات المنذرة بالحروب والتصدعات الجغرافية والوجودية، واختناق آفاق العدالة والسلام. ..
رواية أيقظت عندي قراءات سابقة لكليلة ودمنة ومهرجانها الحيواني البليغ والحكيم..وذكرتني ثانية بكلبي "سربانتس " في إحدى قصصه وفيض فكرهما واهتمامهما بشؤون العيش و العائشين...تلكم النصوص..وتلكم جماليتها وجدواها المؤنسين والمؤسسين للنظر والاعتبار الأدبي والقيمي. ...