المدح سُلّم المنافق… ومهلكة الصادق إن غفل
تأمل في الأثر: "حدثنا أحمد بن بحر حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : أثنى رجل على رجل من المصلين في وجهه فقال : اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته" [ابن أبي الدنيا- الصمت: 272]
مدخل:
ليس كلّ عملٍ صالحٍ في ظاهره… محبوبٌ عند الله.
وقد يخدع الإنسانُ نفسه فيظن أنه يعبد الله، بينما هو يتقرب إليه بما يكرهه الله! فما القصة؟ وما معنى هذا الدعاء العجيب؟
أولًا: ما المقصود بـ"تقرّب إليّ بمقتك"؟
أي: هذا الرجل ظن أن مدحه لي سيُرضيني، فجعل ما تكرهه (يا رب) وسيلة للتقرّب إليّ، كأنه يقول: "ها أنا أمدح هذا العابد كي أكسب ودّه"، مع أن الله يكره المدح في الوجه لما فيه من إفساد للقلب.
وهذا يكون في أحوال، منها:
1. الرياء:
كأن يكون الرجل يُصلي، لا رجاءً للثواب، بل ليراه الناس، ويُثنوا عليه.
فإذا أثنى عليه أحد، ظنّ أنه مدحٌ يقربه إلى الله،
لكن العارفين بالله يرونه تقربًا بما يبغضه الله، فيشهدون على مقته!
قال ﷺ:"من سمع، سمع الله به، ومن يرائي، يرائي الله به." (متفق عليه)
2. العُجب بالعبادة:
قد يكون مخلصًا، لكنه أُعجب بنفسه، ورأى في ثناء الناس تزكيةً له، ففرح ورضي… وكأنها شهادة تقوى!
لكن الله تعالى قال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ (النجم: 32)
وقال بعض السلف: "لو أن العُجب دخل في عمل صالح، لم يبق منه شيء."
ثانيًا: معنى:"وأنا أشهدك على مقته"؟
أي: أُشهد الله أني أبغض هذا الفعل وصاحبه؛ لأنه تقرب إليّ بما يُبغضه الله، فاستحق مقتي أنا أيضًا.
لأن المخلصين إذا رأوا العبادة صارت سُلّمًا للرياء، أو كانت مدخلاً لمدح الناس، كرهوها، لا لذات العبادة، بل لانحراف النية.
فهذا المصلّي – وإن ركع وسجد – إلا أنه:
- أراد مدح الناس لا وجه الله.
- أو أحب سماع الثناء أكثر من سماع القرآن.
- فصار ما يراه الناس "تقوى"… هو في الحقيقة "مَقت".
ولهذا قال بعض السلف:"ربَّ معصيةٍ أورثت ذلًّا، خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزًّا."
ثالثًا: كيف ننجو من هذه الآفة؟
- استحضار مراقبة الله:
- أن نُصلّي ونعبد، لا لأجل أحد، بل لأننا نُحِب الله ونرجو وجهه.
- الهرب من مدح الناس: إذا أثنى أحد علينا، فلنردّه على الله، ونقول كما قال أبو بكر:
"اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرًا مما يظنون."
المدح في الوجه غالبًا ما يفسد القلب ويورث العجب والرياء.
من فقه السلف: كرههم المدح العلني حتى في الطاعة، لأن النفس ضعيفة وقد تفسد بذلك.
الإخلاص لا يجتمع مع حب الثناء والمدح.
الصالحون كانوا يكرهون الثناء العلني، لا لأنهم لا يستحقونه، بل خوفًا على قلوبهم من الفتنة.
كيف ننجو؟ بمحاسبة النفس بعد الطاعة:
- هل فرحت لأنها قُبِلت؟
- أم لأن الناس رأوها؟
- النية تعرفها عند الثناء وعند الخفاء.
خاتمة:
ليس كل مصلٍّ محبوبًا عند الله، ولا كل تقيٍّ في الظاهر نقيٌّ في الباطن.
فلا تغتر بعملك، ولا بمدح الناس، وكن كما قال ابن المبارك:
"ربَّ عملٍ صغير تعظمه النية، وربَّ عملٍ كبير تصغره النية."
واعلم أن العبادة الحقة أن تستتر، وأن يُخشى من المدح، لا أن يُطلب، ومن اقترب من الناس بمدح لا يُرضي الله، فذلك طريق الخسارة عند الله.
وكن من هؤلاء الذين:
- يعبدون الله في خفاء،
- ويخشون أن يُفتنوا بالثناء،
- ويعلمون أن أعظم العبادة… صدق النية مع الله.
التعليقات