يقول الشيخ الهمام ... الشيخ الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره :
[ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ/ تِسْعٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ الرحل طَرِيقَتُهُ، وَكَانَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَرْبَعِ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَنَةً لَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ.
قلت : انظر اللبيب ... كيف يقرر الإمام الرازي رحمه الله تعالى ,, القاعدة الأصلية في الاقتداء والتأسي والتي اشرنا إليها أنفاً ... وقلنا انه ما دام لم يأتي نص واضح من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة على خصوصية النبي عليه الصلاة والسلام في امر معين من أمور الشريعة ,,, فيبقي الأمر على اصله الأصيل الثابت وهو الاقتداء به والتأسي في كل هديه وسنته وسيرته ....
ثم يتطرق الإمام الرازي إلى دليل الفقهاء في هذا الحصر بأربعة زوجات وخصوصية النبي عليه الصلاة والسلام في الزيادة على أربعة زوجات ... فيقول رحمه الله تعالى /
وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ،
وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً» .
ثم يقرر الشيخ الرازي ضعف وتهافت هذا الدليل من وجهين :
الوجه الأول : لأنه خبر آحاد معارض لظاهر الآية الكريمة ... وبالتالي لا يجوز نسخ حكم الآية الكريمة بمثله
الوجه الثاني : أنها واقعت حال تحتمل التأويل لأنها غير صريحة في الدلالة ... فيقول :
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ
قلت : لكم أجاد وأفاد الشيخ الرازي رحمه الله تعالى .. وعفا عنه ... فقد جلى الحكم الصحيح .. وكشف الغمة عن وجه الصبح الجميل ... في هذه المسألة المهمة ... فالشيخ الجليل والمفسر الهمام يقرر أن معنى الآية الكريمة ودلالتها لا تدل على الحصر بأربعة زوجات فقط ... ورغم انه ممن يؤمنون ويعتقدون بجواز نسخ الآيات القرآنية بالقرآن الكريم نفسه وبالسنة والإجماع ...[ وهذا ما لا نقره ولا نؤمن به ولا ندين بها أبداً حتى نلقى الله تعالى ... ولأن آخر من السماء على الأرض فتخطفني الطير أو تهوي بي الرياح في مكان سحيق أهون علينا من أن نعتقد هذا العقيدة في كتاب الله تعالى ... وهذا قد تكلمنا فيه من قبل ولا مجال لإعادة الكلام فيه الآن ..]
الشاهد أن الإمام الرازي رحمه الله تعالى .. يقرر عدم جواز نسخ معنى الآية الكريمة والتي تطلق التعدد من غير حصر بعدد ... يقرر عدم جواز نسخها بخبر آحاد ..
ثم يأتي على الرواية نفسها بالتضعيف ... لأن الرواية عبارة عن واقعة حال ... وكما هو معروف بين الأصوليين أن وقائع الأحوال تقع تحت طائلة الاحتمال ... كما قرر ذلك أيضاً الإمام الرازي في كلامه السابق ذكره ... إذاً يعود إلينا السؤال المستحق مرة أخرى ... ما هو دليل الفقهاء على هذا التحديد بأربعة زوجات فقط .. خلافا لظاهر الآية الكريمة وفعل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه ... ؟
فيكشف لنا الإمام الرازي عن دليل الفقهاء الذي اعتمدوا عليه واليك بيانه من كلام الشيخ :
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ.
قلت : سبحان الله تعالى ولا اله إلا الله تعالى ... كيف تنسخون قول الله تعالى بهكذا ظنون وأوهام... بغير إذن من الله تعالى وسلطان مبين ؟
وكيف وأين نجد هذا " الكشف " الذي بشركم به " الإجماع " وفرحتم به ؟!
وكيف يكون " إجماعا " كما تسمونه وقد خالفكم فيه طائفة من الأمة بعلم وحلم ورأي رشيد ... يؤمنون بالكتاب كله حكما قيما ومعيارا صادقا ... ويعتمدون الكتاب حجة بالغة مهيمنة على كل ما سواه ؟!
أفمن حكّم الكتاب والسنة الصحيحة وقام بها صار عندكم من أهل البدعة والضلال؟!
إذاً باعتراف الشيخ الرازي كبير المفسرين ... أن التقييد بأربع زوجات للرجل ليس له أي دليل من الكتاب والسنة الصحيحة ... لأن الرواية التي اعتمد عليها الفقهاء في تحديد الأربع زوجات ... كما قال الشيخ هو واقعة حال محتملة الدلالة .. ومتى وقع الاحتمال سقط ا لاستدلال ...
ولو كانت مسألة حرمة التعدد بأكثر من أربعة ... مقررة شرعا لكان لابد من وجود نهي عن ذلك في القرآن الكريم وفى السنة النبوية الصحيحة ... ولوجدنا ولو رواية واحدة صحيحة يقول فيها النبي عليه السلام أن الله تعالى قد حرم عليكم الزواج بأكثر من أربعة نساء ...
فعدم وجود نص صريح كهذا في السنة النبوية في مسألة مهمة وخطيرة كهذه لأنها تختص بالبضع والعِرِض لهو دليل على معنى الآية الكريمة كما ذهبنا إليه وذهب إليه قوم قبلنا يسميهم الرازي قوم سدى ... وبقية المفسرين يرمونهم بالبدعة والضلال ... وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالكتاب كله محكما ومتشابه في الجمال والإتقان والتمام والهدي القويم والسراج المنير!
لذلك لما لم يجدوا دليلا ناهضا من الكتاب والسنة ... وعجزوا عن الآيتان به ... اتخذوا من تقليد الأولين وعبادتهم صنما نحتوه نحتا بأيديهم وسموه " الإجماع " فهم يلجئون إليه في كل ملمة وحادثة ويهرعون إليه مهطعين ... والله تعالى يقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْءًا وَلَا يَهْتَدُونَ } [البقرة: 170]. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ } [لقمان: 21].. !
فهذا الكتاب العزيز ناطق ببيان صادق وحق اليقين بحرية التعدد وفق شروط شرعية وقدرية ... وهذه سنة النبي العدنان العملية { وهى من أصح السنن وأقواها} تزوج بثلاثة عشرة امرأة ومات عليه السلام وعنده تسعة منهن ... فماذا بعد الحق إلا الضلال ...
يقول شيخ المفسرين الرازي رحمه الله تعالى : فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟
قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قلت : هذا تملص وهروب جلي وواضح من مقتضى سياق الآية الكريمة ... ولكن بلا طائل ... لأن سياق الآية الكريمة ناضح بالبيان الشافي لكل المؤمنين ... فالواو لا تعني عند العرب إلا الجمع المطلق ...
أما " أو " فهي تعني التخيير والإضراب والتقسيم والشك والإبهام ...
فهذا الحصر والاقتصار على أربعة زوجات الذي زعموه في تفسير الآية الكريمة ... هم يعلمون انه خلاف ظاهر الآية الكريمة وسياقها الواضح كالشمس في كبد السماء ... والدليل على ذلك وتفسيره تجده في قوله تعالى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فاطر: 1]. فلا يمكن لاحد من المفسرين أن يحصر عدد أجنحة الملائكة في أربعة فقط كحد اقصى ... بل هي تزيد عن ذلك إلى ما شاء الله تعالى ... وقد ورد في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام من ربه الكبير المتعال ... له ستمائة جناح ...
فالآيتان الكريمتان لهما نفس السياق مَّثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فما الذي يجعل الآية الكريمة الأولى في التعدد الزوجي مقيدة بأربعة كحد اقصى ... والثانية غير محددة بأربعة أجنحة كحد اقصى ؟!
ولما جاءت السنة النبوية العملية مصدقة للآية الكريمة ودلالتها الواضحة ... ذهبوا إلى الخصوصية .... إذ زعموا أن هذا التعدد الذي فعله النبي الكريم عليه السلام كان من خصوصياته .... ولا يوجد أي دليل من القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه الخصوصية في التعدد ... والرواية اليتيمة التي تعلقوا بها ـ رواية غيلان ـ لا تدل على هذه الخصوصية لا من قريب ولا من بعيد ...!!