وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ٥٤ 

المكر من أفعال المشاكلة والمقابلة المنسوبة لله تبارك وتعالى في القرآن الكريم, ولا يشتق منها اسم أو صفة لله تبارك وتعالى , فلا يقال من صفاته المكر فهو الماكر, إن لله تبارك وتعالى صفات عليا وأسماء حسنى ذكرها لنا القرآن الكريم ليس على سبيل الحصر والإحاطة, وكل الأفعال الواردة في القرآن الكريم منسوبة لله تبارك وتعالى هي من مقتضى الأسماء والصفات الحسنى وليست هي نفسها صفات لله تبارك وتعالى , وقد بينا ذلك من قبل في رحاب سورة البقرة , وهذه قاعدة عظيمة الفائدة وهى الخلاص الوحيد ـ فيما نرى ـ من ضنك هذا المعترك الوخيم الذي تناحرت واختلفت فيه الأمة باسرها بين التعطيل المحض والتعطيل المتواري والتشبيه الصريح والتشبيه المتواري وما بينهما من التفويض والفرق والجماعات المتناحرة.

إن الكون كله ظاهره وباطنه وشهوده وغيبه هو من مقتضى أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا , ومعلوم قطعاً أن عالم الأنس والجن ـ بوصفهم مكلفين ومختبرين بحرية الإرادة وممتحنين بتسخير الأسباب لهم خلال فترة الحياة الدنيا ـ عالم ملئ بالطغيان والشرور والفساد, فهل يصح أن ينسب ذلك لله تبارك وتعالى مباشرة , وهذا معترك ضنك آخر ليس اقل من سابقه افترقت فيه الأمة بين الجبرية والقدرية , فالأولون لما نظروا لعموم خلق الله تعالى لكل شيء وان الكون كله وكل ما خلق الله تعالى لا يتحرك فيه متحرك ولا يسكن فيه ساكن إلا وفق مشيئة الله تعالى وإذنه , وهو الخالق للفاعلين وفعلهم , وهو الخالق لإبليس والشياطين كما خلق جبريل عليه السلام والملائكة الكرام , وليس ثم خالق غير الله تعالى , وكل ذلك حق لا ريب فيه ولكنهم عالجوا كل ذلك بمحض عقولهم القاصرة المخلوقة وقاسوا وشبهوا ونسبوا كل ذلك لله تبارك وتعالى مباشرةً وجعلوها من صفات الله تعالى وأفعاله فكانت النتيجة البائسة الشنيعة أن قالوا بالجبر والتسيير وكفروا وتزندقوا بمقولات واعتقادات شنيعة لا يسعنا ونحن في رحاب القرآن الكريم الطيبة العطرة أن نذكرها لشنعتها وخستها.

وقابلهم وعارضهم الآخرون بمعكوس قولهم ونقيض اعتقادهم الفاسد بمعتقد فاسد أيضا وقالوا بتعدد الخالقين , وان الإنسان هو الخالق المستقل بخلق أفعاله وانه يكون في كون الله تعالى ما لا يريد ولا يشاءه ولا يعلمه حتى يقع , وهؤلاء هم القدرية المجوسية , وبين هؤلاء وهؤلاء فرق وجماعات بمسميات مختلفة تائهة وحائرة لا تدري أين الخلاص إلا قليلا قليلا ممن رحم الله تعالى. .