والآن كما ترى أيها اللبيب لسنا في حاجة إلى نفي ما ورد في كتاب الله تعالى من آثار أفعال الله تعالى وصفاته , كما لسنا في حاجة إلى تأويلها تأويلاً فاسداً يفسد المعنى تماماً ويصرفه عن معناها اللغوي الذي يدركه العربي ذو القريحة الفطرية السليمة .
لأن كل الفرق والأحزاب التي افترقت وتناحرت حول هذه القضية الأصل , فمنهم من نفى وعطل بدعوى التنزيه , ومنهم من شبه وجسّم بدعوى الإثبات وعدم التكذيب بالكتاب , وبينهما فرق وأحزاب تائهة حائرة بين هذا وذلك !!
كل ذلك نتيجة فساد الأصل الذي بنوا عليه بنيانهم كله , فبنوه على شفا جرف هار , فانهار بهم في مهاوي التيه والضنك , وهذا الأصل الفاسد الذي انطلقوا منه , أنهم تعاملوا مع الأفعال القدسية الواردة في كتاب الله تعالى ( و كذلك التي اخترعوها من عند انفسهم ) على أنها هي نفسها في حقيقتها المطلقة للذات المقدسة , ولم يتدبروا القول ويفهموا عن الله تعالى , أن حقائق الأسماء والصفات المقدسة لا يمكن وصفها , ولا يمكن للعقل مجرد تصورها أصلا , ولكن خاطبهم الله تعالى بما يمكنهم تصوره وفهمه من آثار الصفات والأفعال القدسية في هيئتها عندما تتفاعل مع نواميس الزمان والمكان والحركة والتحيز , عندئذ يمكن للعقل التعامل مع معناها وفهمه على أساس التنزيه , فأفعال الإيتان والمجيء يوم القيامة أو السخرية والاستهزاء والمكر هي في صورتها بالنسبة لعقولنا , وتشكلها في فهمنا فقط , وليست هي في حقيقتها وذاتها وكينونتها صفات للذات المقدسة وأفعالها مباشرةً , بحيث تنسب لله تبارك وتعالى مطلقاً , لذلك كل الذين تصورها هكذا لم يكن لهم خلاص من ضنك هذا التصور الفاسد إلا إحدى مسلكين , وكلاهما في غاية الفساد , أولهما مسلك النفي والتعطيل , وهذا اقتضاء عقلي محض لما لا يمكنه مجرد تصوره البتة ,
وثانيهما مسلك التشبيه والتمثيل لكي تكون في مجال ونطاق العقل حتى يستطيع التعامل معها وفهمها وإدراكها ولو كومضة البرق اللامع في أفق السماء !
فالذين عطلوا اعتمدوا علة صحيحة في نفسها وهى أن هذه الأفعال لا تجوز على الله تعالى وتتنافى مع كماله المطلق في الذات والأسماء والصفات والأفعال , ولكن لما وضعوا هذه العلة الصحيحة على اصلهم الفاسد ضلوا وأضلوا وما استقاموا .
والذين شبهوا وجسّموا اعتمدوا علة صحيحة في نفسها أيضا وهى أن الله تعالى تعالى على كل شيء قدير , وأنه فعّال لما يريد , ولكن لما وضعوا هذه العلة الصحيحة في نفسها على اصلهم الفاسد ضلوا وأضلوا وما استقاموا , وتناسوا أن أفعال الله تعالى التي هي فعله هو سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون فيها نقص أو ما يشبه النقص أو حتى يحتمله مجرد احتمال .