بسم الله الرحمن الرحيم.
ها هو يومنا الثالث، والأول في محاولة فهم البلاغة؛ وهي كالبهارات في وجبة شهية معدة من النحو، والصرف؛ قد لا يكون القوام -الوجبة- لذيذًا أو ملفتًا؛ ببعض البهارات؛ سنغطي على مرارتها؛ ونعطيها راحةً، ومزاقًا شهيًّا ملفتًا للأنظار يُعجب به متذوقه. أنوه على شيء بسيط تلكم القواعد التي سندرسها لن تجعلك تلقي بالقول الحاسم، الناهي المحكم كالحجاج ولن تجلس تلعب بالكلمات مع المتنبي ..؛ كما ظننتُ قبلًا، فقط سترشدك إلى الطريق الصحيح مع هذه القواعد وبعض التمارين والممارسة والقراءة ما دمت حيًا؛ تتحسن ملكة البلاغة، @Volteccer حضرتُ لك حساءً مُرّ أتمنى أن لا أكون حرقته :( كعادتي.
دعك من أي كلام كُتِبَ فوق؛ كان مثالًا على محاولة سيئة لكتابة قول فصيح، لنكمل درسنا،
يضم علم البلاغة ثلاثة أقسام:
علم المعاني: يختص بمعرفة كيفية بناء الجمل والتركيب بناء يتطابق مع مقتى الحال.
علم البيان: يختص بمعرفة الطرق المختلفة التي يمكن التعبير بها عن المعنى الواحد بأكثر من صورة لفظية.
علم البديع: يهتم بوجوه تحسين الكلام مع مطابقته لمقتضى الحال.
تتكامل هذه العلوم مع بعضها البعض كاشفة عن القيم الجمالية في كلامنا العربي الفصيح.
كبداية ..، ما الفرق بين الفصاحة والبلاغة ومتى نصف شيء بهما؟
الفصاحة تصف ثلاثة أشياء: الكلمة، الكلام والمتكلم، فيجوز أن نقول رأيتُ رجلًا فصيحًا، كتبتُ كلمة فصيحة، قراتُ الكلام الفصيح.
البلاغة كالفصاحة إلا أنها لا تصف الكلمة فلا يجوز القول قرأتُ كلمةً بليغةً.
الفصاحة لغة: الظهور والبيان.
وفي الاصطلاح: هي عبارة عن الألفاظ الظاهرة المتبادرة إلى الفهم، والمستأنسة ...
إذن ليس بالقول الفصيح القول الغريب الصعب غير المستعمل؛ بل يجب أن يكون القول سهل الفهم ظاهر المعنى .. كما عليه منهج القرآن -الذي عجز أهل الفصاحة عن الإتيان بمثله، بدون احتوائه على الصعب، أو الغريب من الكلمات.
شروط فصاحة الكلمة
فهمتُ ثلاثة طرق يجب اجتنابها لكتابة كلمة فصيحة، كل طريق يتفرع إلى عدّة ضروب، وطريق رابع قد يختلف عند البعض:
تنافر الحروف:
كيف نحدد تنافر الحروف:
لا يوجد قاعدة قياسية للتحديد!:
في الحقيقة لم يتوصل أحد إلى تحديد قاعدة للتنافر، هذان قولان لمحاولة إيجاد السبب:
شرط التنافر تقارب مخارج الكلمة الواحدة مثل كلمة الهُعْخُع(قال الخليل عن الفذ من العرب، هو شجرة يتداوى بها وبورقها) -بعيدًا عن تلك الكلمة التي جلست في ساعتين أحاول نطقها!، رُدَّ على قولهم بإن كلمة "بفمي" في "ذقته بفمي" أغلب حروفها تخرج من مخرج واحدة وهو من الشفتين في ما عدا الياء.
شرط التنافر تباعد المخارج مثل كلمة ملع، رُدَّ عليهم بإنّ هناك كلمات بعيدة المخارج وفصيحة "عَلِمَ" من درس الصرف بالأمس
مثلًا.
إذن الميزان الذي نهتدي به لمعرفة تنافر الحروف، هو اللسان العربي، اللسان العربي الذي تربى على نطق القرآن، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، وكلام الفصحاء.
التنافر على ضربين؛ شديد وخفيف
المقياس في ذلك غير قياسي أيضًا، مدى صعوبة نطق الكلمة يحدد مقدار التنافر،
الشديد: مثل قول الأعرابي -الذي ذكرناه فوق- عندما سئل عن ناقته أين تركها فقال تركتها ترعى الهعخع.
الخفيف: مثل قول امرئ القيس مستشزرات:
غدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إِلى العُلا ** تَضِلّ العِقاصُ في مُثَنَّى وَمُرْسَلِ
ويسألوني لماذا أكره شعره.
غرابة الاستعمال
بعض الشعراء والفصحاء -رحمهم الله- كانوا لا ينفكون يكتبون الغريب حتى على أهل الفصاحة والشعر نفسهم، الغرابة على ضربين:
الغريب الوحشي:
الذي لم يألف استعماله وخفى على الفصحاء في عصور الفصاحة، كمثال روى عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حماره، فلما وجد الصبية اجتمعوا عليه قال لهم:
مالكم تكأكأتم على تكأكؤلكم على ذي جنة افرنقعوا عني
جاء بألفاظ غريبة وإن كانت صحيحة، لم تتداول على الألسنة، ولا وجود لها إلا في المعاجم الكبرى، ومعنى كلامه "ما لكم اجتمعتم على اجتماعكم؛ على رجل مجنون ابتعدوا عني"، ويوجد الكثير من الأمثلة على الغريب الوحشي، لا تحتاج إلى الكثير من البحث صدقني :)
كون الكلمة على معنيين
ليس المراد هنا الكلمات السهل معرفة معناها من السياق؛ المقصود هنا الكلمات الجدّ صعب استخراج معناها المراد، كقول رؤبة بن العجاج يصف أنف امرأة:
ومقلةً وحاجبًا مزججا ** وفاحِمًا ومَرْسِنًا مُسَرَّجَا
اختلف العلماء بسببه على معنى لفظه "مسرجا"؛ فقالواْ أخذها من قولهم للسيوف "سريجية" أي أنفها في الاستواء والدقة كالسيف السريجي، أو اللفظ مأخوذ من السراج، أنفها في بريقه ولمعانه كالسراج.
مخالفة القياس الصرفي
معنى ذالك ألا تجري الكلمة على أوزان، وقواعد الصرف، ومن أشهر ذلك قول المتنبي بوقات؛ كان الأحق قول أبواق(جمعها بجمع المؤنث السالم بدلًا من التكثير)،
فإنْ يكُ بعضُ الناسِ سيفًا لدولةٍ ** ففي الناسِ بُوقاتٌ لها وطبولُ
الكراهة في السمع
وهي أن تكون الكلمة مكروها، مُتبرأ من سماعها، وهذه القاعدة خصوصًا تختلف من شخص إلى شخص الأمر يعود إلى ذوق وثقافة السامع.
من أمثال الكراهة في السمع الجرشي، حقلد،
مـــبارك الإسم أغـــرّ اللقبْ ** كريم الجرشّى شريف النسبْ
أبي الطبيب المتنبي.
تقيّ نقيّ لم يُكَثِّر غنيمةً ** بنَكْهَةِ ذي قُرْبَى ولا بِحَقَلَّدِ
زهير بن أبي سلمى.
إنتهى درسنا لهذا اليوم، بإذن الله في الغد سنعود مجددًا إلى النحو -بعض علامات الاسم.
التعليقات