وقفت قرب النافذة، متطلعة لأوراق الخريف المتساقطة ذات اللون النحاسي. يزيدها شحوبا خيوط شمس غروب خريفي بارد. هكذا يتساقط كل شيء ويفقد بريقه قبل أن يستعد للنهوض من جديد. سنة الحياة. أرسلت خيالها مستبصرة حياتها الجديدة التي اختارت. لم تحس بمثل هذه الحرية من قبل. حتى قبل أن تعرفه. فقد كانت مقيدة بالبحث عن الحب. كان أشد مطلب لها آنذاك. وقد وجدته، بصيغة لم تكن تتوقعها.

قطع حبل سرحانها رنين الهاتف. أرسلت ناظريها نحو شاشته. عرفت المتصل. مدت يدها ببطء لتلتقط الهاتف. أعادت النظر للشاشة قبل أن تجيب. قابل صمتها صمت آخر من الطرف المتصل.

ثم استرسل الصوت خافتا، مناديا اسمها:

'أنا آسف، ..'

صمتت لثوان .. ثم أجابت بثقة، تعلو محياها ابتسامة "اللاأمل":

'كنت آخر أمل لي .. لم أثق من قبلك .. ولن أثق من بعدك'

لم يبق لأي منهما أية إضافة بعد كلماتها العاصفة تلك. لم تعلم كيف كان وقعها عليه. ربما لن يتأثر. فكما تقول إحدى كاتباتها المفضلات،'مثير للشفقة اعتقادنا أننا نملك ذاك القدر من التأثير على الآخرين'. والذي تشرحه قائلة أننا 'لا نستطيع إيذاء الآخرين ولا أحد يستطيع إيذاءنا. الشعور بالسوء وبالجرح هو اختيار شخصي'. كل يختار ما يود عيشه.

في لحظة تختلط فيها درجات الشعور كهذه، تمنت لو ذرفت عينها دمعة. ربما قيمت الموقف بطريقة جعلتها تعتقد أن البكاء سيكون مناسبا. ولكن لم تقنع نفسها برغبتها في البكاء.فأبت دموعها أن تسيل. فحتى الدمع منها عنيد.

ومع ذلك فهي لا تحقد عليه ولا تحمله ثقل ما حدث. كانت ولا زالت تؤمن بأن لحظاتها مباركة.

ولا تلومه كذلك. هي ترى في الرجال عيبا "بيولوجيا" لن يستطيعوا التغلب عليه ولو رغبوا. إنه طمعهم في أخرى. وبقوة وفاء كوفائها وغيرتها الكبيرة لن تستطيع تحمل نظره لأخرى. لن تتحمل ذاك العذاب، لذا فضلت وقررت البعاد. ولا تحاول إيجاد البديل، فقد اكتفت بحياتها الجديدة. حيث أضافت أفرادا جددا لعائلتها. قيثارتها، قلمها، حاسوبها وحذاؤها الرياضي، وهي سعيدة بهم.

قد تجد لدى أغلب النساء عنصرا آخر على رأس تلك اللائحة. ذاك العنصر الحلو المذاق البني اللون. أما فتاتنا فمختلفة. هي لم تحب الشوكولا يوما. ولم تستسغ المذاقات الحلوة. فحتى الذوق منها مختلف. ولطالما لاقت نظرات الاستغراب من صديقاتها. لم تكن تعتبره شيئا ينتقص من شخصيتها. بل اعتبرته مديحا. نعم غريبة باختلافها، وما الجيد في التشابه على أية حال.

عادت لحبل أفكارها الحالمة من جديد، ناظرة عبر نافذتها وغير مبصرة. منتقلة بين أفكارها تارة وبين أحلامها أخرى.

تحب عائلتها، وتستمتع باكتشاف شخصياتهم والاتصال بهم على مستوى أعمق، وكأنها تتعرف عليهم لأول مرة. تحب أصدقاءها المقربين والجدد. تعشق غرابتهم واختلافهم وقوة شخصياتهم. تحب قلمها الذي تبثه أحزانها وأفراحها ولحظات ضعفها ولحظات إبداعها. وتحب قيثارتها التي نادرا ما تلعب على أوتارها. والتي يكفيها احتضانها لتشعر بأن معها رفقة جميلة، صديقة مقربة ربما. وتحب حاسوبها أيضا. ففيه تجمع كل ذكريات حلها وترحالها، كتبها ومقالاتها الرقمية التي غيرت حياتها ونظرتها لكل شيء. وتحب أيضا حذاءها الرياضي المريح. لا تعرف السر وراء ذلك، لكن ارتداء ذلك الحذاء يشعرها بحرية مطلقة.

تدريجيا استرجع بصرها علاقته بالواقع. شعرت بالوحدة وهي تراقب هبوط الليل الخريفي البارد عبر النافذة. سمحت لنفسها بعيش ذاك الشعور بلطف. ضمت يديها إلى صدرها بدفء محتضنة نفسها. ثم همست لنفسها مبتسمة ابتسامة الحب واللطف المعهودة منها :' أحبك صغيرتي'.

أدارت ظهرها للنافذة، كما تدير ظهرها لكل تجربة منتهية، وهي ممتنة لكل الدروس. وتوجهت نحو المطبخ لتعد لنفسها كوب شراب ساخن. وهي تحمل كوب الشراب الساخن قفزت لذهنها فكرة 'إنه يوم الثلاثاء! موعد حفل الأوبرا. علي أن أستعد'.

نعم فهي تحب الأوبرا أيضا!