انتحار رجل 

بقلم 

أيمن الشنديدي 

(١)

في ظلمات الطرق يسير ، قد غاب عقله عن كل ما يحيط به ، و انغلق قلبه فلا يكاد يشعر بشيء ، و انظفأت روحه فهو في حكم الأموات .

تناقلته الأمواج المتلاطمة من طور إلى طور ، من نجاح رنى إليه إلي فشل وقع فيه، من طموح شغف به إلى يأس فتك به ، أخذ الموج يعصف بنفسه و بدنياه إلى أن رمته إلى ذاك المكان ، إلى خلاصه ، إلى مثواه الأخير .

وقف الرجل ،الذي اكفهرت حياته و تخلت عنه ، فوق هذا التل ، ذلك التل في هذا المكان المعزول عن دنيا الناس التي رفضته كما رفضه ساكنوها و كما رفضت غيره كثيرًا .

وقف متأملًا الفراغ من أمامه فذكره بفارغ روحه ، و نظر إلى أسفل التل ، فرأى القاع فسخر من قنوطه الذي لا قاع له ، أغمض عينيه ، قد عزم أمره ، دمعت عيناه ، عجب من وقاحتهما ، فماذا بقى يبكي عليه ؟! ثم سأل نفسه هل وُجِد شيءٌ حقاً في حياته ليبقى ؟! 

استعاد رباطة جأشه ، و جدد نيته ، و قد عزم على الأمر حقًا هذه المرة ، لم يغلق عينيه ، كان العزم واضحًا فيهما كما اليأس ، و بوجه حزين مجروح ، اقترب من الحافة ، اقترب ….. ثم اقترب …… ثم ……..

(٢)

رن الهاتف !! 

صعق الرجل، تعجب الرجل ، وجل الرجل ، صعق من فجأة صوت الهاتف ، تعجب فكيف يرجو إنسان عاقل أن يتصل به ! وجل خوفًا على صدق نيته ، فلقد رأى يده تلتقط هاتفه و تجيب اتصاله !

وضع الهاتف على أذنه ، لم يتفوه بشيء ، ربما لأنه لم يحادث بشريًا منذ فترة طويلة ، أو ربما ألجم غرابة فعله لسانه ، و لكن من بدأ الحديث كان المتصل .

" لقد انتهى حظك …. نعرف أين أنت …. اهرب كما شئت …. سنجدك مهما حاولت… و عندما تقع في أيدينا …. سنقتلك ".

انتشر الغبار في أرجاء طرق الظلمات التي كان يمشي عليها ، من فرط سرعته ، فكان يجري كالعجل الهارب من سكين القصاب ، قطع مسافات طويلة حتى اختفى التل من ورائه ، تسارعت أنفاسه ، جف حلقه ، غزر عرقه ، تعب جسده ، أخذ قلبه ينبض بقوة معلنًا عن حياته ، كان الخوف ظاهرًا على وجهه ، نعم يمكن لأي أحد أن يرى هذا الخوف الواجم على هذا الوجه المبتسم .

(٣)

بعد كل هذا العدو ، وجد نفسه في الأرض العامرة التي لفظته قبل ، وجد نفسه بين الناس التي رفضته قبل ، و كرههم هو و أرضهم قبل ، و لكنه عجب عندما وجد أنه لم يشعر بالكره هذه المرة بل شعر بالراحة.

جلس أخيرًا ، أخذ يلتقط أنفاسه ، شعر بالفرق بين ما استنشقه من هواء في الأرض المعزولة و بين ما يستنشقه الآن في الأرض المعمورة ، هدأ قليلًا ، فكر كثيرًا ، أخذ سيل من الأفكار يفيض داخل عقله الذي قد غاب فترة ليست بالقصيرة، أخذ يتساءل:

" من كان هذا المتصل ؟"

" كيف عرف رقم هاتفي ؟"

" لماذا يريد قتلي ؟"

" ما الذي فعلته لاستحق عليه القتل ؟"

" انتظر .. هل فعلت شيئًا من قبل أصلًا ؟"

" إن كان عدم فعل شيء يوجب القتل ، فأنا أكبر أفاك يستحق القتل !"

رأى أن الجواب لا يملكه الآن ، فأغمض عينيه ليستريح ، كان فعله هذا غريبًا حتى بالنسبة إليه ، فبالرغم من قلقه الشديد و خوفه الكبير و جد قلبه الذي انغلق قبل يشعر ببعض الراحة! تسائل عن السبب و لكن لم يبحث حقًا عن جواب ثم غفى .

استيقظ من غفوته ، رجعت إليه ذكريات ما حدث ، وجد كل ما عاشه اليوم شيئًا من الخيال الغريب ، بل قد كذب نفسه للحظة و شعر أنه اختلق كل هذا و لكنه نظر في هاتفه فوجد الرقم في سجلاته ، فتأكد من يقين الأمر ، كان هناك الكثير من الأمور عليه أن يفكر بها ، ولكنه رأى جمعًا من الناس ، رأى كل واحد منهم يتحدث عن حياته ، عن أفراحه ، عن أتراحه ، عن إنجازاته ، عن إخفاقاته ، عن ما رآه ، عن ما عاشه …..

وجد نفسه يقترب إلى الجمع ، لا يدري ما الذي يدفعه لذلك ، وصل إليهم ، انضم لهم ، وصل دوره للحديث ، التفتوا إليه – وكانت أول مرة يلتفت إليه أحد- شعر بالحيرة و بشيء آخر ، شيء لم يكن واثقًا من كنهه ، ربما شيء من حبور ثم وجد نفسه يقول :

" أحدهم يريد قتلي " 

(٤)

اشرأبت رقاب الناس إليه و تحولت أنظارهم نحوه ، و شغلت قصته تفكيرهم ، لقد رآه الناس أخيرًا ، قد رأى الناس أخيرًا ، كاد الخوف يفتك به من كبر الموقف الذي هو فيه ، فلم يخبر مثله قبل ولا اعتاد من الناس الاهتمام ، و مع ذلك كلما ازداد خوفه ازداد سعادة ، لم يكن يعرف ما الذي عليه أن يفعله ، تشوش ذهنه و تضاربت أفكاره ، فقرر أن يرتجل و يقص عليهم قصته مع هذا الرجل الذي يريد قتله ، أخذ يختلق القصص و الناس تصغي

" كنت أهزمه دائمًا عندما كنا صغاراً" والناس تصغي، 

"دائمًا ما تفوقت عليه .." و الناس تصغي،

" حصلت على الوظيفة التي فشل في نيلها " والناس تصغي ،

"تزوجت المرأة التي أحبها و رفضته " والناس تصغي ،

"أطفالي كذلك تفوقوا على أطفاله " و الناس تصغي،

"لم يجد أحدًا يحبه قط !" و الناس تصغي ،

" فما كان من حل إلا أن يقتل نفسه … أقصد أن يقتلني" و الناس قد صغت .

ها هو ذا يشعر بما لم يشعر به من قبل ، و لأول مرة في حياته البائسة شعر بقيمته في الحياة ، نعم لقد أبصر أخيرًا دوره في الحياة ، لقد أبصرته الحياة أخيرًا!

قال لنفسه :" لقد اهتدينا أخيرًا " 

لقد ابتسم حقاً ، لقد فرح حقًا ، لقد أحس بالحبور حقيقةً ، لقد وجد طريقه ، فشعر بالامتنان للرجل الذي يريد قتله ، رأى روحه تشتعل بعد أن ظنها قد انطفأت ، لقد عاد للحياة أخيرًا ، اقترب إليها ….. ثم اقترب …. ثم …..

(٥)

رن الهاتف !

كان نفس المتصل ، سارع بالرد ليشكره ، فسبقه الرجل و هو يضحك قائلًا:

"آسف …. كان الأمر كله مزحة!"

ثم أغلق الخط ….

ثم ألقى بنفسه من فوق التل .

النهاية.