لم يبقَ أحد بعد الآن، أصبحت بلا عائلة، بلا مأوى بلا وطن، أسكن في الزقاق وآكل من بقايا النفايات وأغلب الأيام صيام، كانت الوجبة المفضلة لدي بقايا اللحم مع الثوم وبضع من البطاطا ذات الرائحة النتنة، كانت تكفيني لأربعة أيام، اعتدت الرائحة والمرض والتسمم حتى أصبح لدي مناعة ضدها، مناعة العيش المر، مناعة الفقر والذل، مناعة اللامأوى...
وبعد مرور الأيام والسنين والاعتياد على هذا الحال اللعين، كَبُرَت هُيام، نعم اسمي هو هُيام، أسماني اياه والدي ويعني جنون العشق، فقد كانت أمي سعيدة جداً بحملها لي حتى أنها كانت تغطي منطقة البطن بحذر كي لا يصيبني مكروه وأنا بداخلها، هُيام طفلة الشوارع التي ترعرت على صوت القذائف والجوع والمشي عارية القدمين في الظلام الحالك والبرد القارص..
ذات مرة طاردني مجموعة من الرجال السكارى، وحينها لم أستطع فعل شيء سوي البكاء والركض دون معرفة الوجهة، أبي ليس هنا لأناديه، أمي لا تحمل ملعقة الخشب كما كانت تحملها لتحميني من القطط، وأخي ليس هنا، لا أحد هنا سوى البكاء، سرت وركضت وتعثرت وجرحت وقمت وهرولت ونزفت وصرخت صرخت صرخت آه كم صرخت، حتى وصلت البحر
البحر إنه البحر، كم هو جميل، لأول مرة أرى البحر، البحر البحر انظر يا أبي البحر لكن لم يكن هناك أبي، وفي لحظة كضوء البرق حُمِلت من الخلف وتم وضعي في القارب وكان صوت الرجل ذو الشاربين الغزيرين والقامة الطويلة يضج في أذني : هيا هيا يا فتاة لا يوجد وقت، وقت؟ أي وقت ولِمَ؟ لا أذكر أنني كنت أحسب الليل من النهار، فقد كانت كل أيامي متشابهة..
وما زال الرجل يصرخ بصوته الخشن القوي " الوقت الوقت، لا متسع من الوقت" ثم سارت القوارب بلمح البصر والخوف يملأ أرجاء المكان، بكاء الصغار عويل الأمهات وانكسار الآباء وضياع البلد، أسأل من حولي من أنتم؟ لِمَ أنا هنا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟
أجابتني طفلة صغيرة ربما تبلغ من العمر ست سنوات " سنذهب إلى حقل الزهور ونشاهد النجوم تلمع في السماء ونأكل الخبز المقرمش ونشرب الماء العذب، هكذا قالت أمي "، هنا علمت بأنه حان وقت المغادرة، المغادرة على أمل اللقاء مجدداً أو ربما لا داعي لمجدداً، فهذه الأحلام التي تعيشها هذه الفتاة هي حقوق واجبة في الخارج..
" سبل عيونه ومد ايده يحنونه، غزال صغير وبالمنديل يلفونه " هكذا كانت إحدى الأمهات تغني لرضيعها حتى يلهو وينام، حتى نام للأبد، فقد نام قهراً وجوعاً وبرداً وخوفاً، نم يا صغيري فالموت أهون من العيش على قيد الموت..
وبعد عدة أيام في البحر، حيث البرد القارص والجوع اللعين وفراق الأحبة والمصير المجهول، وصلنا لكننا لم نصل، مئات الأطفال قد ماتت على متن القارب، كانت رحلة بخسارة فادحة، لم يكن شيئاً غريباً سوى أن طريقة الموت اختلفت، فمن مات بقذيفة لا يشبه أبداً من مات في أحضان والديه على صوت أمه الحنون وحضن أبيه الدافئ حاملاً أمل العيش في الخارج، آملاً بمشاهدة النجوم تلمع في السماء، متعطشاً إلى شربة من الماء العذب، مسكين هذا الطفل فقد رضع ذل العيش حتى شبع الموت..
المعنى المتعارف بيننا للقتل دائماً إما بالرصاص أو الطعن أو أياً كانت الطريقة، لكن المعنى الحقيقي هو أن تأخذ منه كل شيء يحبه أن تجرده تماماً ، هكذا تكون قد سلبت منه روحه