عُرضت عليّ دعوى مدنية عندما كنت قاضياً في المحكمة الابتدائية بسمائل بسلطنة عمان، كانت تتضمّنُ ادّعاء صوريّة نقل عقار من أبٍ إلى ابنِه لغرض حصول الابن على قرض من جهة عمله، إلا أنّ الابن تُوفِي، فكان الحكم - بفضل الله تعالى - نتاج بحثٍ في الصوريّة ومَن المدعي فيها، وكذلك في قبول شهادة الواحد، وكانت خلاصة ذلك "من المقرّر قضاء أنّ الأصل في العقود الجدّيّة، وأنّ الصورية هي اتفاق طرفي التصرف القانوني على إخفاء إرادتهما الحقيقية تحت شعار مظهر كاذب لغرض ما يخفيانه عن الغير، فعلى من يدّعي الصوريّة في العقد إثبات دعواه بالبيِّـنة المعتبرة، ومنها شهادة الشهود، وإلا كان له الحقّ في الاحتكام إلى ضمير خصمه بتوجيه اليمين الحاسمة إليه في الأحوال التي يصح فيها ذلك، فإن حلف خسر المدعي دعواه وإلا حكم للمدّعي بما يدّعي على القول المعتبر عند أهل العلم ما لم يردّها المدعى عليه إلى المدعي، وعلى هذا جاءت المواد (1) و(67) و(74) و(75) من قانون الإثبات، كما أنه من المقرّر قضاء "أنّ لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تكييف طلبات الخصوم وفهم الدعوى على حقيقتها بما تتبيّـنه من وقائعها وأن تنزل عليها وصفها الحق دون أن تتقيد بتكييف الخصوم"، لما كان ذلك وكان الثابت بالأوراق أنّ المدعي قد تنازل لابنه ... عن قطعة الأرض المذكورة بتأريخ 16/11/2013م، وأنّه قد صدر سند الملكية باسم ابنه، وكان المدعي يدّعي صوريّة هذا العقد على أساس أنّه اتفق مع ابنه على أن يتنازل له عن الأرض لأجل الحصول على قرض من وزارة الدفاع، فإذا انتهى القرض رجع الابن الأرض إلى أبيه المدعي، إلا أنّ ابنه قد توفّي بتأريخ 10/4/2014م، فلما كانت المدعى عليها - وهي إحد ورثة ابنها المذكور - تنكر هذا الاتفاق، فالمدعي يدّعي خلاف الأصل، فعليه الاثبات، وأحضر الشهود المذكورين، وكانت شهادة الشاهد الرابع غير صريحة على الاتفاق أو على سماع إقرار من ... بالاتفاق، وإنما كانت شهادته بأنّه سمع بأنّ ...سيتنازل عن البيت لابنه ....، وأنّه سيكتب له ورقة لا يدري مضمونها، وعليه فلا حجة في هذه الشهادة، والشاهد الثالث صرّح بأنّ شهادته بحصول الاتفاق كانت استنتاجاً ولم يسمع من ...، ولم يكن حاضراً، فلا حجة في الشهادة، والشاهد الأول شهد بأنّ ... أخبره بأنّه اتفق مع والده لأجل أن يسجل البيت باسمه لأجل حصوله على سلفية من مقرّ عمله، فهذا تصريح بالغرض من نقل سند الملكية، ولكن ليس في الشهادة التصريح بما كان عليه الاتفاق هل سيرجع الملكية إلى والده أو أنّه سيعطيه في مقابل ذلك مبالغ؟، فهي شهادة غير ناصّة على الواقعة المراد إثباتها وهي حقيقة الاتفاق الذي كان بين المدعي وابنه ...، فلا حجة فيها، تبقى شهادة الشاهد الثاني وهي صريحة على الواقعة، ولكنهّا شهادة شخص واحد، فهو دون نصاب الشهادة وهو رجلان أو رجل وامرأتان؛ لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} البقرة: ٢٨٢، وإن كان لم يرد نصّ صريح في اشتراط التعدّد في الشهادة في قانون الإثبات، إلا أنّه يمكن أن يؤخذ ما يفيد أنّ الشاهد الواحد لا يكتمل به الدليل من المادة (77/2) من قانون الإثبات التي نصّت على أنّه "إذا كان الدليل المعتبر وفقاً للفقرة (1) من هذه المادة هو شاهد واحد فلا يجوز للمحكمة اللجوء إلى توجيه اليمين المتممة إلى المدعي لإكمال الدليل"؛ فنصاب الشهادة على هذا شاهدان، وقد طلب المدعي توجيه اليمين فيما إذا لم يثبت الحق بموجب الشهادة، وعليه أعلمته المحكمة بأنّ حقه توجيه اليمين، فطلب توجيه اليمين إلى المدعى عليها، وبعد استيفاء توجيه اليمين شروطه، حكمت المحكمة تمهيداً بتوجيه اليمين الحاسمة إلى المدعى عليه ليقسم بهذا اللفظ: " أقسم بالله العظيم بأنّي لا أعلم أنّ تنازل المدعي عن قطعة الأرض السكنية رقم (...) بمربع .... بولاية .... لابنه ... كان تنازلاً صوريّاً الغرض منه حصول ابنه على قرض من وزارة الدفاع لأجل الرهن على أنّه إذا وفى الدين رجع الابن سند الملكية إلى المدعي"، وبعد توجيه اليمين قرّر المدعي الرجوع عن توجيه اليمين، وعليه يبقى أصل كون التنازل عقداً حقيقياً على حاله، ولا تثبت الصوريّة التي يدّعيها المدعي خلافاً للأصل، فتقضي المحكمة برفض الدعوى".
ويمكنك أخي القارئ الاطلاع على الحكم القضائي في الرابط الآتي:
التعليقات