كبشر نحبُّ اعتقاد أننا نتخذ قراراتنا الواعية بأنفسنا -أي أننا نملك إرادة حرة-. مفهوم الإرادة الحرة يعتبر واحدًا من أهم المفاهيم في حياء المرء الفردية والاجتماعية. في حياة المرء الفردية -إن كان المرء مؤمنًا- تعتبر الإرادة الحرة علي سبيل المثال هي أساس حياء المرء الإيمانية فهي أساس فكرة التكليف الديني. فالله يعطيك حرية الإرادة أن تطيعه أو تعصيه ثم يحاسبك بعد ذلك على اختياراتك. في الحياة الاجتماعية تعتبر الإرادة الحرة هي أساس نظام العدل أو نظام القضاء. إن لم يكن المرء منا مسؤولاً عن أفعاله وله كامل الحرية في ارتكابها فلا يحق لنا معاقبته عليها لأنه هكذا لا يرتكبها بإرادته [1].
– مفهوم الإرادة الحرة.
يمكن تعريف الإرادة الحرة بثلاثة شروط. الأول هو ”القدرة على القيام بغير ذلك“. هذا مفهوم بديهي: لكي تكون حرًا، يجب أن يكون لديك على الأقل بديلين يمكن الاختيار بينهما. يمكن أن تختار أن تسرق أو لا تسرق. أن تصلي أو لا تصلي. الشرط الثاني هو ”التحكُّم في اختيارات المرء“. يجب أن يكون الشخص الذي يتصرف هو نفسه الذي يقرّر ما يجب فعله. لكي يُمنح المرء إرادة حرة، يجب أن يكون هو بنفسه صاحب اختياراته، دون أي تدخل من آليات خارجية. يجب أن يكون ”مالك“ قراراته وأفعاله. الشرط الثالث هو ”الاستجابة للأسباب“: لا يمكن أن يكون القرار حراً إذا كان نتيجة اختيار عشوائي، ولكن يجب أن يكون هناك دافع عقلاني وراء القرار. إذا رميت نردًا لتقرر من ستتزوج، فلا يمكن القول إن خيارك خيار حر. على العكس من ذلك، إذا اخترت الزواج من شخص معين بسبب حبك له مثلاً أو بسبب أن أفكاره تتوافق مع أفكارك فهنا خيارك سيكون خيار حر [2]، فهل نملك بالفعل إرادة حرة وهل تتحقق هذه الشروط فينا أم لا؟
– “مجرد وهم”.
قديمًا تولي الفلاسفة مهمة الإجابة على سؤال هل يملك البشر إرادة حرة أم لا؟ لكنهم لم يصلوا إلي جواب. لكن حديثاً أصبح علم الأعصاب هو المسؤول الرئيسي الآن للجواب على هذا السؤال، فهل نفى علم الأعصاب مفهوم الإرادة الحرة؟
حسب النظرة المادية الاختزالية للإنسان وهي النظرة التي يتبناها الآن عدد كبير من علماء العالم الأكاديمي الغربي ومن ضمنهم علماء البيولوجيا والأعصاب (Reductive Physicalism) – فكرة أن الإنسان ما هو إلا مجرد روبوت بيولوجي مكون من ذرات تتحكم فيه قوانين الطبيعة كما تتحكم في غيره من الظواهر الطبيعية كالأمطار وحركة الكواكب -من الصعب القول إن الإنسان يملك إرادة حرة [3]. بالتحديد الشرط الثاني من شروط الإرادة الحرة يصعب الدفاع عنه بشكل كبير. فحسب هذه النظرة لست أنت من يتحكم في قراراتك وأفعالك بل الأحداث العصبية في دماغك هي ما تفعل وتقرر وتحدد سلوكياتك وبما أنك لا تستطيع أن تتحكم في هذه الأحداث العصبية فشعورك بأنك تملك إرادة حرة مجرد شعور وهمي فقط غير حقيقي.
غالباً ما يتم الاستشهاد بدراسات من علوم الأعصاب لدعم هذه النظرة توضح أن: (1) النشاطات العصبية في الدماغ تسبق قراراتك الواعية حتي قبل أن تعي أنت هذه القرارات (2) يمكن التنبؤ بقراراتك الواعية بناءً على نشاطات الدماغ التي تسبق هذه القرارات الواعية.
أول تجربة في علم الأعصاب للجواب على سؤال هل نملك إرادة حرة أم لا؟ كانت تلك التي قام بها العالم بنيامين ليبت وتم نشرها في مجلة (Brain). أحضر ليبت مجموعة من المشاركين وطلب منهم القيام بأي حركات إرادية مثل تحريك معصم أو الضغط علي زر بشرط أن يتذكروا بدقة متى قرروا القيام بهذا الفعل. ثم قام بتوصيل أدمغتهم بجهاز تخطيط الدماغ الكهربائي (EEG). بدأت التجربة فسجل الجهاز نوع من أنواع الأنشطة الكهربائية الذي يتولد عادة في الدماغ قبل أي حركة إرادية ويطلق عليه اسم كمون الاستعداد (Readiness potential) قبل 350 ميكروثانية من قراراتهم الواعية بالحركة، الأمر الذي قاد لخلاصة مفادها أن الدماغ قرر ما ينبغي فعله قبل أن يعي هؤلاء المشاركين ذلك [4].
تم تكرار هذه التجربة من فرق بحثية مختلفة وحصلوا على نفس النتائج على سبيل المثال [5]. بل وكما ذكر بالأعلى يوجد دراسات أحدث تقول إنه يمكن التنبؤ بالقرار الواعي الذي ستتخذه أنت في المستقبل بناءً على نشاط الدماغ السابق. في واحدة من أشهر الدراسات على مجلة (Nature Neuroscience) تم السماح للمشاركين أن يقرروا بحرية ما إذا كانوا يريدون الضغط على زر بيدهم اليسرى أو اليمنى. كانوا أحرارًا في اتخاذ هذا القرار متى أرادوا، لكن كان عليهم أن يتذكروا في أي وقت شعروا أنهم اتخذوا قرارهم. كان الهدف من التجربة هو معرفة ما يحدث في الدماغ في الفترة التي سبقت شعور الشخص باتخاذ القرار. وجد الباحثون أنه كان من الممكن التنبؤ من خلال إشارات الدماغ بالخيار الذي سيتخذه المشاركون حتي قبل سبع إلي عشر ثوانٍ من قرار الضغط الواعي [6]. بل وليس التنبؤ بالحركات الإرادية وحسب بل والتنبؤ بالنية الداخلية المجردة لفعل شيء ما حتى من نشاط الدماغ السابق. في دراسة من أشهر الدراسات بمجلة (PNAS) قام الباحثون من خلال تجربة معقدة بالتنبؤ بالعملية الحسابية التي نوى المشاركون إجراءها حتي قبل أربع ثوانٍ من اختيارهم الواعي. يمكن تبسيط التجربة هكذا (هذا تبسيط، التجربة لم تتم هكذا بالضبط في الواقع لكن التبسيط يوضح فكرتها الأساسية): أعطى الباحثون المشاركين عمليات حسابية (جمع أو طرح أي عددين) مثل {(4+3=؟)،(4-3=؟)} على لوحات وطلبوا منهم حلها. تمكنوا من خلال نشاط الدماغ السابق أن يتنبؤا هل نوي المشارك اختيار حل عملية الجمع أو عملية الطرح قبل أن يعطي المشاركون لهم الجواب بالجمع 7 أو بالطرح 1 بأربع ثوانٍ [7]. هذه الدراسات يبدو أنها تقترح أنه لا وجود فعلاً للإرادة الحرة. لكن هناك العديد من الانتقادات التي وجهت ضد هذه الدراسات من قبل عدد متزايد من الفلاسفة والعلماء في العالم الأكاديمي الغربي.
– الإرادة الحرة كحقيقة.
من أشهر الاعتراضات علي تجربة ليبت والتجارب المشابهة لها والتي تزعم جميعها أن نشاط الدماغ هو ما ”يسبب“ القرار الواعي بالحركة حتى قبل أن تعي أنت ذلك. أنه لم يبرهن أحد في الواقع أن هذا النشاط هو ما ”يسبب“ القرارات الواعية. لم يبرهن أحد أن الأحداث العصبية التي تظهر في دماغك قبل الحركات الإرادية هي ما ”تسبب“ إرادتك الواعية. والمعترضون يبرهنون علي أن النشاط الدماغي الذي رصده ليبت ليس هو النشاط الذي يسبب الإرادة الواعية؛ من خلال الاستشهاد بدراسات أوضحت أن هذا النشاط الدماغي يظل موجوداً حتى بدون أن يقوم الشخص باتخاذ أي قرارات واعية. في دراسة علي دورية (The International Journal of Psychophysiology) أحضر الباحثون مجموعة من الأشخاص جلسوا أمام شاشة تعرض أشكالاً هندسية مختلفة: معين، مثلث، دائرة، مربع، مكعب. وطلب منهم الباحثون أن يضغطوا على زر معين عند رؤيتهم لصورة المكعب فقط. بالفعل كما حدث في تجربة ليبت تم رصد كمون الاستعداد قبل الضغط علي الزر. لكن أيضًا تم رصد نفس هذا النشاط العصبي حتى قبل أن يتم عرض صورة المكعب على الشاشة أصلاً لذلك استنتجوا أن هذا النشاط العصبي لا يمكن أن يكون هو السبب في أنك اتخذت القرار الواعي للضغط على الزر؛ لأن هذا النشاط ظل موجودًا حتى من دون اتخاذك لأي قرار واعي [8]. في دراسة أخري بدورية (Consciousness and Cognition) طلب فيها الباحثون من مجموعة من المشاركين الضغط أو عدم الضغط على زر عند سماع نغمات صوتية معينة. عندما قرر المشاركون الضغط ظهر نفس النشاط الذي رصده ليبت قبل الاستجابة الحركية لكن في نفس الوقت عندما لم يضغط المشاركون علي الزر ظهر نفس النشاط الذي رصده ليبت أيضاً، النشاط ظل كما هو في الحالتين؛ إذن لا يمكن أن يكون هذا النشاط هو ما يسبب إرادتك أو رغبتك الواعية بالضغط لأنه يظل موجوداً سواء ضغطت أو لم تضغط [9].
اعتراض آخر شهير علي هذه التجارب هو إنكار تحديد وقت الإدراك في اللحظة التي يعلن عنها المشارك. و ذلك باعتبار أن الإدراك ليس عملية لحظية وإنما هي عملية تدريجية تحتاج إلى بناء سابق. وغاية ما يقصده المشارك من فهمه للحظة الإرادة هو الوصول إلى قرار للضغط على زر مثلاً ولكن هذه اللحظة سبقها بالتأكيد عمليات واعية أخري مثل تقييم الهدف، ثم تكوين رغبة تجاه الهدف. أي أن الوعي بفعل معين يظهر على مراحل تدريجية ولا يأتي متأخراً بعد نشاط الدماغ، أي أن نشاط الدماغ المبكر الذي تم رصده في هذه التجارب يعكس ببساطة مستويات فرعية من الإدراك بدلاً من الغياب التام للوعي، وبالتالي لا تشير هذه الدراسات إلى أن القرارات الواعية تُتخذ من قبل الدماغ حتي قبل أن تعيها أنت [10]،[11].
أما بخصوص الدراسات التي تزعم القدرة على التنبؤ بالقرارات الواعية من نشاط الدماغ السابق، فالمنتقدون لا يرون أن هذه النتائج تبرهن أي شيء. في دراسة مجلة (Nature Neuroscience) المذكورة بالأعلى علي سبيل المثال. نسبة دقة التنبؤ (قسمة عدد التنبؤات الصحيحة على عدد التنبؤات الإجمالية) كانت حوالي (60%) يعني (10% فقط) زيادة عن نسبة التنبؤ عن طريق الحظ/الصدفة (التي هي 50% بكل تأكيد لأن هناك خيارين فقط في الدراسة الضغط إما باليد اليمني أو اليد اليسري). هذه النسبة الصغيرة لا تبرهن أي شيء. نسبة دقة التنبؤ يجب أن تكون (100%) لو الإنسان فعلاً مجرد روبوت بيولوجي سلوكه وقراراته تحدد بالكامل من خلال الأحداث العصبية في الدماغ. من التسرع بناءً على هذه النسبة الصغيرة استنتاج أن القرار قد تم اتخاذه بالفعل في هذا الوقت المبكر (7 إلى 10 ثوانٍ قبل أن يكون المشاركون على دراية بالقرار). نتائج هذه الدراسة يمكن أن تدعم فكرة أن النشاط الدماغي السابق قد يجعل الشخص متحيز أو ميال قليلاً للضغط على الزر باليد اليمني أو العكس. لكن لا يمكن أن تدعم فكرة أن القرار يتحدد بالكامل قبل ثوانٍ [12]. دراسة دورية (PNAS) بالمثل لم تقدم دليل يدعم فكرة أن النية المجردة محددة مسبقاً من خلال النشاطات الدماغية، نسبة دقة التنبؤ كانت صغيرة أيضاً (فوق الصدفة بقليل) ويمكن تفسير ما حدث على أنه مجرد عملية ترجيح عشوائية فقط [13]. فالتفسير المادي التعسفي فقط لنتائج الدراسات المذكورة بالأعلى هو ما يمكن أن يوصل المرء لإنكار مفهوم الإرادة الحرة. أما نتائج هذه الدراسات ذاتها لا تدعم فكرة أن الإرادة الحرة مجرد وهم.
وأخيراً ففي دراسة كانت عبارة عن مراجعة لنتائج حوالي 48 دراسة من دراسات علوم الأعصاب والتي كانت تحاول الإجابة على سؤال هل نملك إرادة حرة أم لا؟ تمت ما بين عامي 1983 وحتي عام 2014 وجد الباحثون أن ”تفسير نتائج الدراسات يكون مدفوعاً بالموقف الميتافيزيقي الذي يتبناه القائمين على الدراسة – وليس من خلال التحليل الدقيق للنتائج نفسها، أولئك الذين يعارضون مفهوم الإرادة الحرة يفسرون النتائج بشكل يدعم موقفهم المسبق أن الإرادة الحرة مجرد وهم، والعكس صحيح أيضاً“ [14].
فالخلاصة: يظل الحال كما كان أيام الفلاسفة بلا جواب، علم الأعصاب لم ينفي لكن في نفس الوقت لم يؤكد مفهوم الإرادة الحرة.
مصادر:
[1]
[2]
[3]
[4] https://academic.oup.com/br...
[5] https://www.sciencedirect.c...
[6]
[7]
[8] https://www.sciencedirect.c...
[9] https://www.sciencedirect.c...
[10]
[11] https://www.sciencedirect.c...
[12] https://www.sciencedirect.c...
[13]
[14]
منقول من
التعليقات