– مقدمة.
كثير من الناس لا تفرق بين التطور (Evolution) كعملية طبيعية ونظرية التطور (Theory of Evolution). التطور بوصفه عملية طبيعية هو تغيُّر الأنواع عبر الزمن، أما نظرية التطور فهي تفسير مقترح للإجابة علي سؤال ”كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التَّغيُّر عبر الزمن؟“. التطور كونه عملية طبيعية هو حقيقة ولا يوجد خلاف بين علماء الأحياء والكيمياء والجيولوجيا حوله، حيث توجد أدلة لا يمكن إنكارها من علم التشريح وعلم الأجنة وعلم الوراثة وعلم الأحافير وعلم الجغرافيا الحيوية وعلم المعلوماتية الحيوية التي تشير إلي أن التطور قد حصل بالفعل؛ لكن كيف حدث هذا التطور؟ كيف تغيرت الأنواع عبر الزمن؟
هنا تأتي نظرية التطور كإطار تفسيري محتمل لحقيقة التطور، وعلي العكس من مفهوم التطور بوصفه عملية طبيعية فلا يوجد إجماع بين العلماء علي الآليات التي يمكن أن يحدث بها التطور، حيث يواصل العلماء مناقشة آليات التطور وتفاصيله حتى يومنا هذا.
– الداروينية الجديدة وآليات تطوريَّة جديدة في العالم البيولوجي.
نظرية التطور التي يعرفها معظم المهتمون بالأحياء يطلق عليها مصطلح الداروينية الجديدة (Neo-Darwinism) أو النظرية التركيبية الحديثة (Modern Synthesis) وهي قائمة علي أربع افتراضات رئيسية:
• التَّغيُّر الجيني (الطفرات) العشوائي؛ وينتج من خلال أي أحداث عشوائية مثل التعرض للإشعاعات أو حدوث أخطاء أثناء عمليات النسخ الجيني.
• التَّغيُّر الجيني التدريجي؛ حيث يجب أن تتراكم العديد من التَّغيُّرات الجينية حتى يظهر تغيُّر كبير وملحوظ في النمط الوراثي (جينوم) والنمط الظاهري (سلوكيات وشكل وخصائص) الكائنات.
• بعد حدوث التَّغيُّرات الجينية يبدأ الانتخاب الطَبيعيّ في زيادة كثافة واصطفاء الجينات التي تمنح الكائنات صلاحية تطورية تمكنهم من البقاء علي قيد الحياة في ظل الظروف البيئية المحيطة بهم، وبالتالي يتمكنون من التكاثر ونقل جيناتهم إلي الأجيال اللاحقة حتى تتكرر نفس العمليات في هذه الأجيال مرة أخرى، ومع آليات أخرى مثل الانحراف الوراثي والعزلة الجغرافية والهجرة تظهر الأنواع الجديدة.
• وأخيراً الصفات المكتسبة لا تورَّث [1].
معظم الناس تخلط بين الداروينية الجديدة والتطور البيولوجي بوصفه عملية طبيعية، ويظنون أنهما الشيء نفسه، فيعتبرون ”الداروينية الجديدة“ حقيقة علمية، وهذا ليس صحيحاً، فالدَّاروينية الجديدة هي مجرد إطار تفسيري يشرح لنا ”كيف حدث التطور؟“ مثل نظرية نيوتن عن الجاذبية التي تشرح لنا ”كيف تعمل الجاذبية؟“، نظرية نيوتن التي شرحت لنا ”كيف تعمل الجاذبية؟“ لم تكن نظرية خاطئة لكنها كانت نظرية قاصرة، لأنها لا تستطيع أن تشرح لنا كل شيء عن هذه الظاهرة الطبيعية التي نسميها الجاذبية.
لاحقاً جاء آينشتاين ووضع النظرية النسبية التي تمكنت من تفسير العديد من الأشياء المتعلقة بالجاذبية حيث عجزت نظرية نيوتن عن إعطاء تفسير، فعلى سبيل المثال عجزت نظرية نيوتن عن إعطاء تفسير لحركة كوكب عطارد و انحناء الضوء تحت تأثير الجاذبية. نظرية أينشتاين عن الجاذبية هي الأخرى، ليست بنظرية خاطئة لكنها لا تزال نظرية قاصرة لا تستطيع أن تفسر لنا العديد من الأشياء المتعلقة بالجاذبية، فهي لم تستطع أن تفسر لنا مثلاً ما الذي يحدث داخل الثقوب السوداء؟ حيث تصبح الجاذبية عالية جداً لذلك يسعى العلماء لتطوير نظريات أخري ،مثل نظرية الأوتار أو الجاذبية الكمومية الحلقية، تشرح لنا ما تعجز النظرية النسبية عن شرحه، باختصار كلما تقدم العلم كلما تغيرت نظرياتنا عن الوجود بحسب المعطيات العلمية التي نملكها في كل عصر.
وبالمثل فإن الداروينية الجديدة هي مجرد نظرية تفسر لنا ظاهرة طبيعية ألا وهي التطور؛ لذلك لا يمكن أبداً أن تكون حقيقة علمية فهي قابلة للتعديل وحتي الاستبدال بنظريات أعمق منها كلما عرفنا المزيد والمزيد عن العالم البيولوجي.
وفي العقود الأخيرة كشف العلماء عن العديد من الظواهر في العالم البيولوجي التي تتعارض مع افتراضات الداروينية الجديدة الرئيسية وأوضحوا أن هناك العديد من الظواهر الأخرى التي يمكن استعمالها كآليات طبيعية جديدة لحصول التطور بجانب الطفرات العشوائية التراكمية في الجينات والانتخاب الطبيعي أي أن آليات الداروينية الجديدة ليست هي الآليات الوحيدة التي يمكن أن يحدث من خلالها التطور، وهذا لا يعني أن الداروينية الجديدة خاطئة بالكلية؛ بل يعني أنها قاصرة مثل نظرية نيوتن عن الجاذبية. هذه ثلاثة من أشهر وأهم هذه الظواهر:
– بناء البيئة اللائقة Niche Construction.
ظاهرة يمكن تعريفها علي أنها العملية التي تقوم من خلالها الكائنات الحية بتغيير الحالات البيئية، وبالتالي تعديل الظروف التي يمرون بها هم وغيرهم من الكائنات، وقد تمَّ رصد هذه الظاهرة في العديد من الكائنات الحية، مثلاً في بطاريق الإمبراطور.
بطاريق الإمبراطور تعيش في البرد القارس عند القطب الجنوبي، تتزاوج بطاريق الإمبراطور علي جليد القطب الجنوبي بعيداً عن الماء، وعندما يحصل التزاوج بين زوجين، تضع الأنثى بيضة واحدة علي الجليد وتهاجر إلي أماكن تواجد الماء كي تتغذى تاركةً البيضة مع الذكر، وتبلغ مدة احتضان البيضة 4 أشهر ويجب أن يتم احتضانها في بيئة دافئة (حرارة 38 درجة مئوية) فيقوم الذكر بتغطية البيضة تحت جلد جسده الدافيء المغطى بالريش والدهون ليعزلها عن البرد القارس ويوفّر لها البيئة المناسبة حتى تفقس، الذكر يظل في البرد القارس بلا مأوي 4 أشهر بعيداً عن الماء حيث يتواجد الغذاء الذي يوفر له الطاقة التي تحميه من البرد لحماية البيضة، ومعنى ذلك أنه سيفقد حرارة جسده الداخلية وقد يموت من شدة البرد وعند موته سيتعرّض نسله الموجود في البيضة أيضاً للموت لأن البيضة ستتعرض للبرد القارس لو مات.
فماذا تفعل بطاريق الإمبراطور كي تحافظ علي نفسها ونسلها من البرد القارس أثناء الصيام الطويل هذا؟ يتجمهرون. يتجمع الذكور مع بعضهم البعض ومن خلال زحمة هذا التجمع يولِّدون بيئة دافئة تحافظ عليهم وعلى البيض.، أي أنهم من خلال نشاطهم خلقوا بيئة محلية دافئة داخل بيئة البرد القارس العالمية التي يعيشون فيها، وبدون هذه العملية لا يمكنهم التكاثر. العديد من الحيوانات الأخرى تفعل ما تفعله البطاريق، فبعض الحيوانات تغيّر البيئة التي تعيش فيها من خلال بناء الأعشاش كالطيور والحشرات، أو من خلال بناء السدود في مجاري المياه مثل القنادس للهروب من الافتراس بواسطة الحيوانات الأخرى كالقطط البرية.
هذا يعني أن الكائنات الحية لا تتكيف بشكل سلبي غير نشط من خلال الانتخاب الطبيعي مع الظروف البيئية الموجودة مسبقاً، بل يمكن للكائنات أن تشارك بنفسها بشكل نشط في توجيه عملية تطورها من خلال تغيير هذه الظروف البيئية الموجودة مسبقاً. حديثاً يري بعض العلماء أن هذه العملية تعمل جنباً إلى جنب مع الانتقاء الطبيعي كآلية جديدة من آليات التطور حيث تقوم الكائنات الحية التي تم انتقاؤها مسبقاً بإحداث تغيُّرات بيئية ومع تراكم هذه التّغيُّرات البيئية، تبدأ هذه البيئات المعدَّلة بواسطة الكائنات الحية فيما بعد في انتقاء التَّغيُّرات الأصلح في الكائنات الحية التي ستعيش فيها، وهكذا يحدث التطور من خلال التفاعل المتبادل بين هاتين العمليتين وليس من خلال الانتقاء الطبيعي وحده [2].
– علم ما فوق الجينات Epigenetics.
كما ذُكر بالأعلى،إحدى الإفتراضات الرئيسية للداروينية الجديدة هي أنَّ الصِّفات المكتسبة لا تورّث، لكن في الواقع علم ما فوق الجينات يقول أن الصفات المكتسبة قد تورّث، على سبيل المثال تمّ رصد توريث الصفات المكتسبة في الفئران، وفي البشر وفي العديد من الكائنات الحية الأخرى.
قام باحثون في جامعة إيموري بتدريب الفئران على الخوف من رائحة اللوز، فوجدوا أن الأطفال وحتى أحفاد هذه الفئران كانوا يخافون تلقائياً من الرائحة نفسها ،لا يفترض أن يحدث هذا، لقد تم تعليم أجيال من أطفال المدارس أن وراثة الخصائص المكتسبة أمر مستحيل، فلا ينبغي أن يولد الفأر بشيء تعلّمه والديه خلال حياتهم ومع ذلك فهذا قد حدث [3]، ويوجد اليوم المئات من الدراسات التي تؤكد أن هذا يحدث.
علم ما فوق الجينات هو علم يدرس التَّعديلات الخارجية على الحمض النوويّ التي لا تغيِّر من تسلسل الحمض النّووي، ولكنَّها تؤثر على كيفية قراءة الخلايا للجينات، وهذه التعديلات قد تُنشّط أو تثبط عمل جينات معينة وتنتج من تعرض الكائن لعوامل بيئية خارجية أو من سلوكيَّات الكائن نفسه، على سبيل المثال يمكن أن يحدث تعديل كاستجابة لعامل بيئي يثبط نشاط الجينات المسؤولة عن تثبيط نمو الخلايا السرطانية فتصاب بالسرطان، وحسب علم ما فوق الجينات هذه التعديلات على الحمض النَّوويِّ يمكن أن تنتقل من الآباء إلي الأجيال اللاحقة من خلال البويضات والحيوانات المنوية، فما حدث في تجربة الفئران هو أن التعرض لعامل بيئي (رائحة اللوز) أحدث تعديلات فوق جينية في المادة الوراثية للفئران جعلتهم يخافون من رائحته، ثمّ تمّ نقل هذه التَّعديلات إلى الأجيال اللاحقة فصارت تشعر ،هي أيضاً، بالخوف من رائحة اللوز.
وفي البشر إدمان التدخين، التعرض لضغوطات نفسية كالقلق، إدمان الخمور، الإفراط في تناول الطعام (السمنة)، كل هذه الأشياء، وفقا لأبحاث العلماء تؤدي إلي حدوث تعديلات فوق جينية على المادة الوراثية للآباء وهذه التعديلات يمكن نقلها إلى الأبناء، وتجعلهم هذه التعديلات أكثر عُرضة للإصابة بالقلق، والإدمان والسُّمنة وغيرها من الأمراض كآبائهم، صحتك وسلوك حياتك لهما تأثير على صحة وسلوك نسلك [4]، وبالتالي يجب ضم إمكانية توريث الصفات المكتسبة داخل الإطار التطوري مع توريث التغيرات الجينية التي تُنتج من الطفرات [5].
– علم الأحياء النَّمائيّ التَّطوريّ Evolutionary developmental biology أو ما يُعرف اختصاراً بالإيڨو-ديڨو Evo-Devo.
علم الأحياء النمائي التطوري يُعتبر من العلوم القديمة التّي تم إحياؤها مرة أخرى في العصور الحديثة مع التقدم التكنولوجي، هذا العلم يهتم بدراسة ”كيف تعمل الجينات؟“، هذا العلم كشف لنا عن نوع مميّز من الجينات يُطلق عليها مصطلح ”الجينات المُنظّمة للعمليّات النمائية“ (Developmental Regulatory Genes).
غالباً عندما يتم ذكر الجينات يخطر في بال الكثير من الناس الجينات التي تحمل شفرة الإنزيمات المهمة أو البروتينات التي تحدد شكل اليد أو الدماغ البشري مثلاً. ولكن هذه الجينات التي تبني اليد أو الدماغ لا تعمل بشكل تلقائي عشوائياً بل يجب تشغيلها وإيقافها. هذا ما تقوم به هذه الجينات المنظمة للعمليات النمائية فهي تقوم بتفعيل الجينات التي تقوم بتكوين أجزاء الجسم. وهذه الجينات المنظمة لا تكون هذه الأجزاء بنفسها بل هي مسؤولة فقط عن إعطاء إشارة لبدء عمل الجينات الأخري التي تكون أجزاء الجسم. وبما أن هذه الجينات المنظمة هي ما تتحكم في معظم العمليات الهامة في الجسم. فهي تبدأ عملها في مراحل مبكرة من مراحل نمو أجنة الكائنات.
علي سبيل المثال هناك نوع من الجينات المنظّمة يطلق عليها اسم جينات النّحت أو جينات الهوكس وتبدأ هذه الجينات عملها في مراحل متقدّمة قليلاً من عمر الجنين، تتحكم جينات النحت في تحديد هوية أجزاء الجسم، كما تحدد خطة بناء مخطط جسم الحيوان (Animal body-plan) فتحدّد مثلاً مكان تكوين يده أو مكان نمو أسنانه أو مكان نموّ زعانفه وخياشيمه، يمكن تشبيه وظيفة الجينات المنظمة للعمليات النمائية بوظيفة المهندسين أثناء عملية بناء الطرق والكباري، فالمهندسون مسؤولون عن رسم المخطط الرئيسيّ للطرق والكباري وحسب: أما وظيفة بناء هذه المنشأت يقوم بها عمالٌ آخرون.
لا يمكن أن يبدأ أيّ جين مسؤول عن تكوين أي جزء من أجزاء الجسم عمله إلا عندما تصل له إشارة البدء من هذه الجينات المنظمة لتحدد له كيف ومتى سيعمل. الجينوم البشري يحتوي على أجزاء كبيرة من هذه الجينات المنظمة التي كان يتم اعتبارها جينات خردة (Junk DNA) في الماضي لأنها لا تُشفر لإنتاج البروتينات (Non-coding DNA)، ووجد علماء التطور أن هذه الجينات المنظمة للعمليات النمائية متشابهة في كل المملكة الحيوانية، قد يبدو لك الفأر مختلف تماماً في شكله عن الذبابة مثلاً؛ لكن في الواقع الجينات المنظمة للعمليات النمائية التي تضع تعليمات مثل ”اصنع عين هنا“ أو ”اصنع رجل هناك“ متشابهة بشكل كبير في أجسادهما.
كما ذُكِر في البداية، الداروينية الجديدة قائمة على فكرة أن التطور يحدث من خلال تراكم ”الطفرات“ بشكلٍ ”تدريجيّ“ عبر فترات زمنية طويلة، لكنّنا نملك أدلة من السّجل الأُحفوريّ تشير إلى أن التطور البيولوجي قد حصل بشكل سريع ومفاجئ في كثير من الأحيان، الدّاروينية الجديدة كانت تواجه صعوبة كبيرة في تفسير هذه الأدلّة التّجريبيّة، كي تتحول الديناصورات إلى طيور مثلاً من خلال الطفرات والانتخاب الطبيعي هذا يحتاج حسب الداروينية الجديدة إلى وقت طويل جداً جداً، وقت يفوق الوقت الذّي تطورت فيه الطّيور من الديناصورات في الواقع كما يظهر في السجل الأحفوريّ.
علم الأحياء النّمائيّ التّطوريّ تمكّن من إعطاء تفسير لإمكانية ظهور تغيرات كبيرة وسريعة في نفس الوقت في السجل الأُحفوري، والتفسير هو أن أيّ تغيّر صغير (طفرة) في هذه الجينات المُنظّمة قد يُحدث تغيّرات كبيرة وسريعة في شكل الكائنات الحيّة، لأنّ هذه الجينات المُنظّمة هي ما تتحكَّم في سلاسل أنشطة الجينات الأخرى التّي تكوّن أجزاء الجسم، فلا تحتاج إلى طفرات تراكُميّة متعدّدة في الجينات التي تكوِّن أجزاء الجسم حتّى تتحوّل هذه الأجزاءُ من شكلٍ لآخرَ، يكفي فقط بعض الطّفرات الصّغيرة في الجينات المُنظّمة التّي تُعطي التّعليمات لكل هذه الجينات التّي تشفر لبناء أجزاء الجسم. مجرد طفرة في جينات ”إصنع زعانف هنا“ مثلاً ستلغي نشاطات كل الجينات الأخري التي تشفر لبناء الزعانف في الكائنات وستتوقف بالتالي عملية بناء الزعانف سريعاً وربما يظهر بدلاً منها الأطراف من خلال طفرة أخري تنشط جين منظم ينشط بدوره الجينات التي تنبي الأطراف.
فهذا العلم يمكنه أن يفسّر بعض حالات التَّطور السَّريع التَّي نراها في السِّجل الأُحفوري حيث تعجز الدَّاروينيّة الجديدة بالآليات التَّقليديّة التّدريجيّة عن إعطاء تفسير [6]،[7]، وعليه يجب ضمّه هو الآخر داخل الإطار التَّطوريّ.
– توسيع إطار الداروينية الجديدة.
ما ذُكِر بالأعلى مجرّد ثلاثة أمثلة فقط، ويوجد ظواهر أخرى غير هذه الظواهر، ولذلك وفي ضوء هذه الاكتشافات الحديثة يوجد العديد من العلماء الذين ينادون بضرورة إجراء تنقيحات وتعديلات كبيرة على النظرية الداروينية الجديدة لتتمكن من تفسير عدد أكبر من حقائق العالم البيولوجيّ، وهم فريقان:
– علماء ينادون بإطار تطوريّ جديد يطلقون عليه مصطلح ”التركيبية التطورية الموسعة“ (Extended Evolutionary Synthesis) وقد نشروا العديد من الأوراق العلمية عن إطارهم الجديد [8]،[9] وهذا إطار يأخذ في الاعتبار كلّ الظّواهر التّي ذُكِرت بالأعلي بجانب الطفرات التراكمية والانتخاب الطبيعي كآليات لحدوث التّطور.
– علماء ينادون بإطار تطوريّ يطلقونَ عليه مصطلح ”الطّريق الثالث للتّطور“ (Third Way Of Evolution) وهذا إطار يجمع أيضاً علم ما فوق الجينات مع آلياتٍ تطوريّة أخرى إلى جانب الطفرات التراكمية حيث يرى أصحابه أن الطفرات التراكمية وحدها لا يمكن أن تكون هي المصدر الأساسي للتنوع التّطوريّ كما تزعم الدّاروينية الجديدة بل يجب أن تكون المصادر أكثر ثراءً ويضيفون مع الطّفرات التراكمية آليات أخرى كثيرة لحدوث التّطور مثل النَّقل الأفقيّ للجينات (Horizontal gene transfer) وهي طريقة تحصل بواسطتها الكائنات الحيّة على مواد وراثيّة من كائنات أخرى دون أن تكون من نسلها، ومثل التّعايش التّكافليّ الدّاخليّ (Endosymbiosis) وهي طريقة يعيش من خلالها كائن حيّ في جسد كائن حيّ آخر ويستمر في العمل داخل هذا الجسد ممّا يُولّد تعقيداً بيولوجياً أكبر، ومثل التهجين بين الأنواع (Interspecific hybridization) وهي عملية يحدث من خلالها تزواج بين نوعين من الكائنات من نفس الجنس كتزاوج ذكر الحمار مع الفرس لإنتاج البغل. ومثل قدرة الخلايا علي تغيير محتواها الجيني من خلال قص ولصق أجزاء من الجينوم يطلق عليها العناصر الجينية المتحركة (Mobile genetic elements) وهي سلاسل من الجينات القادرة علي التحرك داخل الجينوم بطريقة القص واللصق – يتم قصها من موقع ولصقها في موقع آخر – داخل الجينوم. ومع تعدّد مصادر التّغيّر الجينيّ يمكن أن يحدث التّطور هكذا بشكلٍ سريعٍ في بعض الأحيان؛ لكنّ أصحاب هذا الإطار التّطوريّ – وبعكس علماء الدّاروينية الجديدة والتّركيبية التّطوريّة المُوسّعة – يرون أن أهميّة الانتقاء الطّبيعيّ لحدوث التّطور مبالغٌ فيها بشكلٍ كبير، فهم لا يرون أنّ هناك أدلة كافية تدعم الافتراض القائل بأن الانتخاب الطبيعيّ هو قوّة تطوريّة إبداعيّة خالقة هو فقط يستبعد الصّفات غير القادرة على التّكيف أو يحافظ ويساعد على انتشار صفات تكيفية موجودة بالفعل في الكائنات الحيّة، لكنّه لا يخلق صفات جديدة [10].
وهذه ليست النّهاية بكل تأكيد، في المستقبل ربما نكتشف أشياء أخرى تَجعلُنا نوسّع هذه الإطارات التّطوريّة أكثر وأكثر.
– فرضيّة التّصميم الذّكي
هناك مجموعة أخرى من العلماء من أشهرهم عالم الكيمياء الحيوية مايكل بيهي، وعالم الرّياضيات ويليام ديمبسكي وعالم الأحافير غانتر بيكلي وعالم الكمبيوتر والهندسة روبرت ماركس وفيلسوف العلم ستيفن ماير الّذين لا يرفضون التطور بوصفه عملية بيولوجية؛ لكنّهم يرفضون الداروينية الجديدة بوصفها تفسيرا لسؤال ”كيف حدث التطور؟“. ويقترحون أن آلية حدوث التطور هي التصميم الذكي؛ أي أنّ هناك مصمّم أو ذكاء يُنتج التّطور،على عكس علماء الداروينية الجديدة وعلماء الداروينية الجديدة الموسعة والطريق الثالث للتطور الّذين يتمسكون بالآليات الطبيعية اللاواعية.
من ضمن هؤلاء أيضاً علماء كبار مثل عالم الكيمياء البرازيلي ماركوس إبرلين ، له ما يزيد عن 800 بحث علمي في مجال الكيمياء ومجالات أخرى مرتبطة بالكيمياء، أو عالم الكيمياء الكميّة والحاسوبيّة والنّظريّة هنري شايفر – له ما يزيد عن 1000 بحث علمي في مجالات الكيمياء النظرية والكميّة والحاسوبيّة وتمّ ترشيحه 5 مرات من قبل العلماء للحصول علي جائزة نوبل في الكيمياء.
إضافة إلى ذلك، ليس كل من يناصرون التصميم الذكي مؤمنين من البداية، عالم الأحافير الألماني غانتر بيكلي مثلاً كان ملحدا ومدافع عن الدّاروينية الجديدة لكن قرأ حجج منظري التصميم الذكي وأقنعته هذه الحجج فصار مناصراً للتصميم الذكي [11]، عالم الكيمياء الحيوية مايكل دانتون لا-أدري ومع ذلك يناصر التصميم الذكي ومعروف بكتابه الشهير؛ التّطور: نظريّة ما تزال في أزمة، فيلسوف العلم الملحد برادلي مونتون يرى أنّ التصميم الذكي نظرية علمية [12]. واحد من أكبر فلاسفة أمريكا الآن – الفيلسوف الملحد توماس ناجل لا يصدّق بالتصميم الذّكي لكنّه مع ذلك يري أنّ مُنظريّ التّصميم الذكي يقدمون بالفعل ”حجج علمية“ تستحق الاهتمام والمناقشة [13]. يعني ليس المؤمنون فقط من يناصرون التصميم الذكي من أجل إيمانهم.
لكن منظمات العالم الغربي العلمية الكبري، مثل الأكاديمية الوطنية للعلوم (National Academy of Sciences) ينظرون لفرضية التصميم الذكي على أنّها مجرد علم زائف لسببين رئيسيّن:
• أنها تفترض تدخّل كينونة فوق طبيعية في عملية طبيعية.
• أن حجج منظريّ التّصميم الذكي قائمة علي الجهل أو مغالطة ”إله الفجوات“ – لا نعرف كيف تطور شيء ما بطريقة ماديّة طبيعية إذاً الخالق هو من طوره.
في الرد عليهم يجادل منظريّ التصميم الذكي أنّهم:
• لا يفترضون أن المصمم أو الذكاء الذّي أحدث التّطور هو بالضرورة خالق فوق طبيعي، يعني لو أحد قال المصمم كائن فضائي مثلاً (كينونة طبيعية لكن واعية)، فلن يعترض عليه منظريّ التصميم الذكي لأنهم لا يصنعون ادّعاءات حول طبيعة المصمم هم يصنعون ادّعاء واحد فقط ”هناك ظواهر معينة في العالم البيولوجي تُفسّر بشكل أفضل من خلال افتراض وجود ذكاء صمّمها علي هذا الشكل ولا يمكن تفسيرها من خلال الآليات الطّبيعية اللاواعية“ [14]،[15].
أمّا إيمانهم بأن هذا المصمم هو خالق فوق طبيعيّ فهو مجرّد إيمان شخصيّ لهم، لكن يمكن تبرير هذا الإيمان منطقياً من خلال إضافة ظواهر أخرى بجانب التّصميم الموجود في الكائنات الحية مثل بداية الكون مثلاً أو الضبط الدقيق لثوابت وقوانين الكون كلّه (Fine-tuning) التّي تستلزم ضرورة وجود خالق فوق طبيعي حسب رأيهم.
• هم لا يحتجّون بالجهل، هم لا يجادلون هكذا: (1) لا نعرف كيف تطوّر هذا النظام الحيويّ المُعقّد بطريقة طبيعية (2) إذاً المُصمم طوّره. بل يجادلون هكذا: (1) هناك خصائص معيّنة في العالم البيولوجي (2) لا يمكن أن تُنتج هذه الخصائص من خلال الآليات الطبيعية اللّاواعية ثمّ يقضون عشرات الصّفحات في تبرير هذه المُقدّمة ببراهين من الواقع الذّي نعيش فيه (3) إذاً هناك مصمم، هم هكذا لا يجادلون من الجهل في معرفتنا بل يجادلون من خلال المعرفة العلمية الحالية أن الآليات الطبيعية اللاواعية لا يمكن أن تنتج خصائص معينة في العالم البيولوجي ولابد من وجود ذكاء يصممها.
ثم هم أنفسهم يقولون لا يمكن منطقياً أصلاً أن تقفز من وجود مصمم إلي جعل هذا المصمم إلهاً، لا يوجد سبب منطقيّ يُلزم أن يكون هذا المُصمّم إلهاً في ضوء التصميم الذّكي وحده بل يجب إضافة حجج أخرى كما ذُكر في الأعلى، ليكون هناك مبررٌ منطقيٌّ للقولِ أن هذا المصمم هو خالِقٌ فوق طبيعيّ أمّا التّصميم وحده لا يمكن أن يُستَخدم للقول أن المصمم هو إله، فكيف يرتكبون مغالطة إله الفجوات من خلال حجة التصميم الذكي، وأصلاً هم أنفسهم يقولون أن هذه الحجة لا تصلح للبرهنة بمفردها على أن المصمم هو إله؟ [16].
الخلاصة – سواء أكُنت تُصدّق بالآليات الطّبيعيّة أو بالتصميم الذكي – هي أن العلم هو طريق مفتوح ولا يوجد فيه كلمات نهائية، ولا يوجد فيه ما هو منقوش على الصّخر. لا يمكن أن تتحول النظريات العلمية التي تصف أو تشرح آليات الظواهر الطّبيعيّة إلى حقائقَ ثابتةٍ بل ستتعرّض هذه النّظريات للتّعديل والتّغير كلّما اكتشفنا المزيد [17]. كما يؤكد عالم الأحياء التطورية ريتشارد دوكنز في كتابه: ”قد يكون داروين منتصراً في نهاية القرن العشرين، لكن يجب أن نعترف بإمكانية ظهور حقائق جديدة تجبر خلفاءنا في القرن الواحد والعشرين على التخلي عن الداروينية الجديدة أو تدفعنا لتغييرها بشكل جذري” [18].
-مصادر
[1] Koonin EV (2011). The fundamentals of evolution: Darwin and Modern Synthesis. (In Logic of Chance: The Nature and Origin of Biological Evolution), FT Science Press.
[2] Niche Construction: The Neglected Process in Evolution (MPB-37) F. John Odling-Smee, Kevin N. Laland, and Marcus W. Feldman, Princeton University Press (2003).
[3]
[4] https://www.science.org/doi...
[5] https://royalsocietypublish...
[6] Endless Forms Most Beautiful: The New Science of Evo Devo. by Sean B. Carroll, W. W. Norton & Company.
[7]
[8] https://royalsocietypublish...
[9] https://royalsocietypublish...
[10] Evolution: A View from the 21st Century. by James A. Shapiro, FT Science Press, 2011.
[12]
[13] Mind & Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature is Almost Certainly False, By Thomas Nagel, Oxford University Press
[14] The Logical Underpinnings of Intelligent Design. By William A. Dembski (In Debating Design: From Darwin to DNA), Cambridge University Press & Intelligent Design as a Theory of Information. By William A. Dembski (In Intelligent Design Creationism and Its Critics: Philosophical, Theological, and Scientific Perspectives), MIT Press.
[15] Design in the details: the origin of biomolecular machines. by Michael J. Behe (In Campbell, J.A. & Meyer, S.C. Darwinism, design, and public education), Michigan State University Press.
[16] Debating Darwin's Doubt: A Scientific Controversy That Can No Longer Be Denied. by Stephen C. Meyer & A Mousetrap for Darwin: Michael J. Behe Answers His Critics by Michael J. Behe, Discovery Institute Press.
[17] Philosophy of Science: Very Short Introduction. Second Edition, by Samir Okasha, Oxford University Press.
[18] Richard Dawkins, A Devil’s Chaplain, Mariner Books, 2003, p81
منقول من
التعليقات