بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ (1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ (2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ (3) قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ (4) ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ (5) إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ (6) وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ (7) وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (8) ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ (9) إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ (10) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُۥ هُوَ يُبۡدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ (14) ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِيدُ (15) فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلۡجُنُودِ (17) فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكۡذِيبٖ (19) وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ (20) بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٞ مَّجِيدٞ (21) فِي لَوۡحٖ مَّحۡفُوظِۭ (22)
السورة ذكرت لمحة صغيرة من قصة عظيمة وردت في السنة النبوية، وهي باختصار: عن ملك أمر ساحر له أن يختار غلام لينقل له علم السحر حتى يخلفه في السحر بعد موته، فاختار غلاماً، وكان هذا الغلام كلما ذهب لدرس الساحر مر على راهب مسلم (على دين المسيح عليه السلام ) فكان الراهب يخبر الغلام بحرمة السحر كما كان يعلمه عقيدة التوحيد والصلاة والدعاء، وذات يوم بينما كان الغلام في طريقه لتلقي الدرس وجد الطريق مغلقا والناس مكتظون لا يستطيعون المرور لوجود دابة كبيرة تخيفهم (وعلى الأرجح أنها كانت أفعى ضخمة) فأخذ الغلام حجراً وقال: "اللّهم إن كان أمر الراهب أحبَ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة بهذا الحجر". ورماها فقتلها، ومنذ هذه اللحظة عُرف بدعائه المستجاب وبأنه يشفي الناس بدعائه فكان يدعو اللّه أن يشفي المرضى وكانوا يشفون، ومن ضمن من دعا لهم رجل أعمى اعتاد مجالسة الملك، فقال الغلام للأعمى: أنا لا أشفي ولكن اللّه هو الشافي فإن آمنتَ به دعوت اللّه لك، فآمن الرجل ودعا له الغلام وشفاه اللّه، فلما رأى الملك الرجل الأعمى يدخل إليه مبصراً، سأله عمن شفاه فأجابه أن اللّه هو من شفاه ورد إليه بصره، فعذبه الملك لأجل أن يدله على مكان الغلام، فدله على مكانه فاستدعاه الملك وسأله كيف رد بصر الأعمى إليه؟ فأجاب الغلام: أنا لا أشفي ولكن اللّه هو الشافي. فعذبه الملك حتى يدله على الراهب، فلما استدعى الراهب وضع الملك المنشار على رأسه وقال له: ارجع عن دينك، فأبى الراهب فشقه نصفين ومات، ثم جاء بالرجل الذي أبصر ووضع المنشار على رأسه وقال: ارجع عن دينك فأبى فشقه نصفين ومات، وأما الغلام فأرسله مع حراس كي يرموه من أعلى جبل لكن اهتز الجبل وسقط الحراس وماتوا ورجع الغلام إلى الملك مشيا على الأقدام، فأرسله مع حراس في قرقور (أي قارب) وقال: أغرقوه في وسط البحر. فلما أصبحوا في وسط البحر قامت عاصفة وانكفأ القارب وغرقوا جميعا إلا هو وعاد مرة أخرى إلى الملك، فاحتار الملك في كيفية التخلص من الغلام، فقال له الغلام أنا أنبئك بطريقة تقتلني بها، وهي أن تجمع الناس كلها وتأخذ من كنانتي سهما وتقول بصوت مسموع باسم اللّه رب الغلام ثم ترمي، ولشدة غباء الملك فعل ما اقترحه الغلام، وقال أمام شعبه كله باسم اللّه رب الغلام وضرب السهم، فقتل الغلام وكبّر الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فاستشاط الملك غضباً فحفر لهم هو وجنوده الأخاديد (الخنادق) في الطرقات وأشعلوا فيها النار وقعدوا، وكلما مر عليهم شخص سألوه هل تؤمن برب الغلام؟ فإن قال نعم قالوا له ترجع عن دينك ولا نرميك في النار، فكانت هذه فتنة، ولكن الناس ثبتت على دينها فألقي بهم في النار، ولم يتردد إلا أم معها طفل صغير فنظر إليها الطفل وقال: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ.
والمحلوظ أن من كل هذه القصة الطويلة لم تذكر السورة إلا لحظة تعذيب المؤمنين ولم تذكر أن الملك تعذب في الدنيا، فمن أنتصر في هذه القصة؟
من الوهلة الأولى قد يبدو أن الملك هو الفائز فالسورة لم تذكر عقاب الملك الكافر في الدنيا لأن السورة إنما نزلت لتربي قلوب الصحابة الذين كانوا يعذبون ويضطهدون في مكة ويفتنون ليتركوا دينهم وتوضع على صدورهم الصخور الضخمة ليكفروا باللّه، فلم تعدهم السورة نصرا ماديا في الدنيا، لأن أصحاب الرسالات والمبادئ قد يكون نصرهم نصرا معنويا، أما سيدنا محمد ﷺ فقد انتصر ماديًا ومعنويًا، ففتح مكة واستسلمت له الجزيرة العربية، لكن المسيح ﷺ كان نصره معنويا، وكذلك زكريا ويحيى عليهما السلام -اللذان ذُبحا- كان نصرهما معنوياً بأن ثبتهما اللّه تعالى على الدين. إذن في قصة أصحاب الأخدود انتصر المؤمنون نصرا معنويا لأن الملك لم يتحقق مراده ولم يعطوه ما يريد بأن يكفروا بل ثبتهم اللّه على دينهم. إذن هذه السورة تعلم الصحابة أن يخرجوا كل شيء من أهدافهم حتى التمكين لدين اللّه، وأن يجعلوا هدفهم الوحيد هو رضا اللّه.