الزهد والفقر

كنت أحاول إقناع بعض أصدقائي بأن الزهد في الدنيا هو أفضل تعامل معها، وبأن الطمع فيها جمع للتراب، لا مكسب فيه وسيثقل حركتك ليس إلا، وكان الرد دائمًا يأتيني بأن هذه الأفكار المثالية عفا عليها الزمن، وأما زمننا فهو زمن التربح والثروة والقوة الاقتصادية، ولا فائدة من الزهد لأنه سيؤدي إلى الفقر.

معنى الزهد

وهنا أدركت المشكلة، فهم يظنون بأن الزهد يعني التخلي عن الحياة نفسها بكل متعها والعيش بعيداً عن الناس، وهذا ليس زهدًا إنما هو تخاذل عن السعي.

أما الزهد فهو السعي في الدنيا دون طمع فيها، أي أنني اسعى للمال لأنفقه في سبيل لله وليس لأكتنزه، وأسعى لامتلاك سيارة لاستعين بها على السعي في الرزق وليس لمجرد أمتلاك ماركة معينة، أي أن الزهد هو معاملة الأشياء وفق مقاصدها وليس بأشكالها أو أثمانها، فما دام اللباس ساترا وجميل المظهر يسر من رأه فأسشتريه، حتى لو لم يكن من أشهر العلامات التجارية، وما دام بناء البيت قويًا وسليما ويفى بالأغراض التي أريدها، فأسشتريه حتى لو لم يكن في مجمع سكني فاخر، الهدف هنا ليس المظهر إنما المقصد والفائدة.

قصة الجنتين

ولكني لم أتمكن من إيصال هذا المعنى إلى نفوس أصحابي بالنقاش العادي، فقد كانت عقولهم غارقة في الصور السينمائية المغلوطة عن الزهادين بأنهم فقراء ولا يعملون ولا يحبهم أحد، فبحثت عن طريقة أرسخ بها هذا المعنى في نفوسهم حتى وجدت قصة حوارية في كتاب الله تبارك وتعالى تتحدث عن موقف مشابه لموقفي:

قال تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا (٣٢) كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَیۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَرࣰا (٣٣) وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرࣱ فَقَالَ لِصَـٰحِبِهِۦ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالࣰا وَأَعَزُّ نَفَرࣰا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَاۤ أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِۦۤ أَبَدࣰا (٣٥) وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهَا مُنقَلَبࣰا (٣٦) قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِی خَلَقَكَ مِن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلࣰا (٣٧) لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا (٣٨) وَلَوۡلَاۤ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَاۤءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالࣰا وَوَلَدࣰا (٣٩) فَعَسَىٰ رَبِّیۤ أَن یُؤۡتِیَنِ خَیۡرࣰا مِّن جَنَّتِكَ وَیُرۡسِلَ عَلَیۡهَا حُسۡبَانࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتُصۡبِحَ صَعِیدࣰا زَلَقًا (٤٠) أَوۡ یُصۡبِحَ مَاۤؤُهَا غَوۡرࣰا فَلَن تَسۡتَطِیعَ لَهُۥ طَلَبࣰا (٤١) وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ عَلَىٰ مَاۤ أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا (٤٢) وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةࣱ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (٤٣) }

[سُورَةُ الكَهۡفِ: ٣٢-٤٣]

ففي هذه القصة قام صاحب الجنتين بالتفاخر بكثرة ثمره على جاره وصاحبه الفقير، فنصحه الفقير بأن يتقي الله ويذكر الله على رزق الله له، فلما نظر الغني إلى حال الفقير ظن بأنه أفضل منه بسبب القوة الاقتصادية التي يملكها، فمحى الله قوته تلك في لحظات حتى بات نادمًا على تكبره على صاحبه الفقير، وهنا الفكرة الرئيسية، فالزهد ليس التخلي عن الجنتين بل كان ذكر الله ونسبة الفضل له والإنفاق في سبيله، فمن الممكن أن يكون الغني زاهداً، لو لم يدخل المال ألى قلبه.

قصة قارون

ولكن لأن معظم الناصحين فقراء أو بسطاء الحال، يظن الغني ومن حوله بأن هذا التفكير هو ما جعلهم فقراء، فيزدرونهم ويستعرضون قوتهم عليهم، وما إن تنفذ سنة الله فيهم ويمحق الله كل قوتهم في لحظة، حتى يعودوا نادمين على ما اقترفوا في حق انفسهم وفي حق الزاهدين.

ولنا في قصة قارون عدة عبر هامة بهذا الخصوص، ففي هذه القصة انقسم الناس في شأن قارون بين من يراه مثاليا وقدوة يحتذى بها، ومن يراه كافرًا بنعمة الله عليه وينتظر أن يعاقبه الله، وإليكم الآيات التي حكت القصة كلها:

قال تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ (٧٦) وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرُ جَمۡعࣰاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِی زِینَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِینَ یُرِیدُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ (٧٩) وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰاۚ وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ (٨٠) فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ (٨١) وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِینَ تَمَنَّوۡا۟ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ یَقُولُونَ وَیۡكَأَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُۖ لَوۡلَاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَیۡكَأَنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ (٨٢) تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ (٨٣) }

[سُورَةُ القَصَصِ: ٧٨-٨٣]

وهنا يتبين لنا انقسام قوم موسى بين حاسد ومنبهر بقارون وبين مناهض وناصح له، فبعض الناس تسحره الإمكانيات العالية والحياة المرفهة، خاصة لو كان فقيراً يعاني لكي يعيش، وهنا يغيب عن هؤلاء معنى الزهد ومبدأه وهو أن الأمور بمقاصدها وليس بمظاهرها، فينظرون إلى فاحشي الثراء ويحسدونهم على النعمة، وما هي إلا أرزاق وزعها الرزاق، لذلك وصفهم الله بأنهم يريدون الحياة الدنيا، أي انهم يريدون المظهر لا الجوهر يبحثون عن المال كهدف لهم لا كوسيلة للعيش.

الحكماء زاهدون

بينما وصف الله تبارك وتعالى الناصحين بأنهم من الذين أوتوا العلم، أي انهم فقهاء في حالهم وفي حال الدنيا، ويعلمون أن الامور فيها بمقاصدها وليس بمظاهرها، ذلك لأن فتوزيع الرزق في الدنيا خاضع لمبدأ تحقيق المقصد منه وليس لمجرد الجمع والاكتناز، وحتى لو لم نفهم سبب هذا التوزيع، فيكفينا فقط أن نعلم بأن هذه الدنيا بنيت على تناقض متجانس بين الخير والشر، وما الفقر والغنى إلا صورة من من صورها، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:

{ ۞ وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن یُنَزِّلُ بِقَدَرࣲ مَّا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرُۢ بَصِیرࣱ }

[سُورَةُ الشُّورَىٰ: ٢٧]

أي ان الله ينزل الرزق وفق حكمته لا وفق العرض والطلب، وبما اننا في الدنيا وهي دار بلاء، فبالتالي من الطبيعي أن يكون هناك تفاوت في الأرزاق، لأن عموم الرزق والمساواة بين الجميع ليس فيها بلاء وهي من صور الجنة.

نعمة البساطة

وفي نهاية قصة قارون ذكر الله تبارك وتعالى أن الذين كانوا يتمنون مكان قارون ندموا على قرارهم، بعد أن رأوا بعينهم مصيره المشؤم، وأكدوا على أهمية منة الله لهم، أي أنهم اعتبروا بساطة حالهم من نعم الله عليهم، لأنه لولاها لكانوا الآن يعذبون بما ملكوا ولم يراعوا حق الله فيه، لأنه إن كان رزقك قليلاً سيسهل عليك وعلى نفسك إخراج حق الله منه، أما إن فحش ثراؤك فسيعظم في نفسك إخراج حق الله منه وسيكون أصعب عليك لأن إحتياجاتك ستزيد، ولأن من حولك سيتعظمون أي فلس تنفقه على غيرهم.

البساطة ليست فقرًا

وهذا لا يعني بأن الفقر أفضل من الغنى، فالفقر أيضاً بلاء عظيم قد يؤدي هو بدوره إلى الكفر، ولذلك وجب أن نفرق بين بساطة الحال وبين الفقر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا".

الراوي : عبيدالله بن محصن | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي

أي أن الكفاية من الرزق التي تحقق مقاصد العيش دون زايدة ولا نقصان، كافية ليعيش الإنسان حياة مستقرة سعيدة، دون تكاسل عن السعي أو مبالغة فيه لتحقيق زيادة ليس فيها فائدة حقيقة، فالزاهد غنياً كان أو فقيراً، يعلم بأن كل ما في يده أمانه لله عنده، فراعي حق الله فيها، ويأخذ منها ما يحقق له مقاصد عيشه لا أكثر.