طالب العلم
ومواقع التواصل الاجتماعي
يشتكي صاحبنا فيقول:
• (محال الجمع بين طلب العلم ومشاغل الحياة الدنيا)!
• (لا أملك الوقت لطلب العلم)!
• (استغرقتْ ساعاتي مطالبُ الرزق)، وغيرها كثير!
حتى إذا ما توافرت لصاحبنا ساعاتُ الصفاء الذهني، فجرًا أو ظهرًا أو مساءً، تخطف حاسبه الآلي؛ لينشر بين يديه مواقع التواصل الاجتماعي (كالفيس بوك وغيره)؛ فيقرأ دردشة فلان، وضحكات علان، وهموم عمرو في وظيفته، وبطولة زيد مع جيرته، وسفاسف كثيرة، ينأى عن ذكرها - فضلاً عن الانشغال بها - طالب علم.
ثم إذا ما عوتب صاحبنا في نفيسِ وقته وجهده، وخور عزيمته عن الطلب، يطلق الشكوى بقوله: (لا يستقيم الجمع بين مشاغل الحياة الجمة والطلب).
فكيف جمعت بين مشاغلها و(الفيس بوك) أيها الذكي الألمعي؟!
ترى المرء منا في مبتدأ الطلب، وأول الدرب منشغل بدنايا الأمور وفضولها، وأحاديث العوام وفروعها، لا يكاد يسلم من واحدة حتى يتبعها الأخرى، فهل يتأتى العلم مع مَن ذا حاله؟!
طلب العلم: نية، وعمل للقلب والجوانح والجوارح.
فاستحضار النية، وجمع شمل النفس عليه، وحملها على مزاولته، والخوف على ضياع أنفس الأوقات في غيره، هو أصل الطلب وأسه.
فوا أسفا على طالب علم في شرخ شبابه وعيسانه، وعنفوان سنيه الزاهرة، لا يزال يقبع في قعر المحادثات اللاغية، ولواقط الأخبار اللاهية؛ فنصف كذب، والنصف الآخر طغت المبالغة فيه على أصل الحقيقة؛ فما حمل الخبر من الحقيقة إلا الاسم!
يقول صاحبنا: (لا أملك الوقت)، وهو يصرف ما لا يقل عن ساعتين يوميًّا على (الفيس بوك)؛ فإذا جُمِعت الساعتان صارت 60 ساعة في الشهر، ثم.. لا يملك الوقت لطلب أنفس مرغوب، وأعظم مطلوب!
فإذا سألناه: ما تفعل أيها المبتدئ في الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل، أتلخيص شرح، أو طرح لفوائد درس، أو جمع لشتات علم؟
لن تلفي شيئًا منها، سوى وقت ضائع، وجهد مستنزف، كان حريًّا به أن يكون في محله الحق، كحفظ متن، أو ما في نحوه.
والوقت أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
قال الإمام ابن القيم في الفوائد: "ضياع الوقت أشد من الموت؛ فإن الموت يقطعك عن الناس، وأما ضياع الوقت، فإنه يقطعك عن الله والدار الآخرة"؛ اهـ.
اعلم أيها الكريم، أن العلم عزيز؛ فهو ميراث النبوة، وورثته هم الصفوة من الخلق، وشرف بني آدم يزيد وينقص بمقدار ما حمل منه، كما أنه أصل الخشية في الدنيا، والعلو في الآخرة.
فكيف يَنال العلمَ مَن هو لاهٍ في سفاسف القوم ودناياهم؟!
ما ذاق طعم العلم الحق، ولا أحاط علمًا بدرب هدفه ومرغوبه - مَن استهوته مجالس أولئك، واستعذب لغوهم.
فلا يغرنك أيها المكرم لذةَ مرحِ القوم الفانية، ومتاعهم الزائل، يقول ابن القيم - رحمه الله -: "السعادة الثالثة هي السعادة الحقيقية، وهي سعادة نفسانية روحية قلبية، وهي (سعادة العلم) النافع ثمرته، فإنها هي الباقية على تقلُّب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره، وفي دُوره الثلاثة؛ أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وبها يترقَّى معارج الفضل ودرجات الكمال، وإنما رغِب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها؛ لوعورة طريقها، ومرارة مباديها، وتعب تحصيلها، وإنها لا تنال إلا على جسر من التعب؛ فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض، فلا يورثك إياها إلا بذلُ الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك:
فقُل لمرجِّي معالي الأمورِ بغير اجتهادٍ رجوتَ المُحالاَ
ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة، وعظم قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن.. حفَّت بحجاب من المكاره، وحُجبوا عنها بأسوار من الجهل؛ ليختص الله بها مَن يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم"؛ [1]اهـ.
فتأمل قوله: (ليختص الله بها مَن يشاء من عباده)، جعلني الله وإياك منهم.
وقبل الختام:
لنقف وقفة صدق مع أنفسنا - معاشر طلبة العلم - فنسألها: لو كان سلف الأمة من أئمة الدين وحفاظه بيننا، أفعلوا ما نفعل، وأضاعوا ما نضيع؟!
والجواب نعلمه جميعًا من سيرهم وحرصهم وزهدهم في المفضول والمباح لأجل الطلب، وإلا فأي بركة كانت في عمر أحدهم، وهو يصنف مصنفات كثيرة، لو حاول أحدنا بمفرده نسخها باليد فقط لربما أفنى شبابه في ذلك.
والخلاصة أيها الكريم، عليك بحفظ وقتك، وعَضَّ عليه بالنواجذ؛ فإنه من أنفس النِّعم، والبركة فيه نعمة أعظم، والعلم لا شك يجيء تبعًا متى ما وُجِدت هاتان النعمتان مع صحة النية والإرادة، ولا تضيِّعنه في سفاسف الأمر ودركاته، فتسلب بركة وقتك، وينقضي عمرك، وأنت لا تزال في طور البَدْء.
والله نسأل أن يرزقنا بركة العمر، وحسن العمل
[1] مفتاح دار السعادة / 303.
المصدر : موقع الالوكة