هل شممت يومًا صفحة من كتاب قديم فأحسست أنك عدت فجأة إلى طفولتك؟ إلى فصل دراسي غائم في الذاكرة، أو زاوية في مكتبة مدرسية تسرّبت إليها الشمس بخجل؟ ليست القراءة وحدها ما يربطنا بالكتب، بل هناك شيء خفي، غير ملموس، يُطلّ علينا من الورق الأصفر... رائحة الكتب. إنها ليست مجرد عبير ورقٍ مطبوع، بل كبسولة زمنية، تحفظ بين طيّاتها لحظات لا يمكن استرجاعها بالكلمات. رائحة الكتب القديمة تشبه الأرواح الهامسة التي عبرت ذات يوم في حياتنا، وتركت أثرًا لا يُمحى. الأنف هنا لا يعمل كعضوٍ حسي فحسب، بل كأداة استدعاء للذكريات، أشبه بزرّ سحريّ يُعيد تشغيل الماضي. العلماء يسمونها "الذاكرة الشمية"، لكننا نحن عشاق الكتب، نعرفها باسم آخر: الحنين. نحن لا نشتاق للكتاب نفسه، بل لما كنّا عليه حين قرأناه، أو لما تواطأنا على نسيانه ونحن نغرق في سطوره. الكتب القديمة، برائحتها تلك، لا تقول لنا فقط "اقرأني"، بل تهمس: "تذكّرني". فلماذا ترتبط هذه الرائحة تحديدًا بشعور عميق بالسكينة أو الشجن؟ ولماذا يعجز القارئ الإلكتروني، مهما بلغت دقته، أن يلمس تلك المساحة النفسية التي تحتلها مكتبة عتيقة؟ هل نقرأ الكتب... أم نستعيد أنفسنا بين صفحاتها؟ الروائح لا تمر بنا كما تمر الأشياء. إنها تلتصق. حين نشمّ عطرًا قديمًا أو ورقة كتب مهترئة، لا نستنشق فقط، بل نُبعث إلى الوراء. علم النفس العصبي يفسّر هذه الظاهرة بارتباط حاسة الشم بمركز الذكريات والمشاعر في الدماغ، وتحديدًا "الجهاز الحوفي" الذي يُعدّ قلب العاطفة والحنين. لكننا لا نحتاج إلى العلم لنعرف هذا. نعرفه عندما نمر بمكتبة قديمة، وتخطفنا رائحة الورق إلى لحظة كنا فيها صغارًا، نخبئ بين أيدينا قصة مصورة أو رواية ممنوعة على أعمارنا. في تلك الرائحة، تختبئ صوت المعلمة، وضحكة الطفولة، وصمت المراهقة. لا شيء يستدعي الذكرى مثل الرائحة... ولا شيء يشبه رائحة الكتب. قد يقول قائل: "ما الفرق؟ الكلمة هي الكلمة، والمحتوى هو الملك." لكن من قال إن العلاقة بين الإنسان والكتاب علاقة محتوى فقط؟ نحن لا نقرأ الكلمات فقط، نلمسها، نحملها، نشمّها، نضعها تحت الوسادة. في القراءة الرقمية، كل شيء سلس ولامع ونظيف. أما في الكتب الورقية، فهناك خشونة الورق، صوت تقليب الصفحات، بقع القهوة، وعبق الزمن. إنها ليست فقط تجربة عقلية، بل جسدية كاملة، أشبه بطقس مقدّس. الكتب القديمة، بخاصة، تُشعرنا بأن هناك من لمسها قبلنا، تنقّلت بين الأيدي والرفوف، وشهدت فصولًا من الصمت والدهشة. هي ليست كتبًا فقط، بل أوعية زمنية، تؤرشف الشعور. كل قارئ حقيقي لديه زاوية يحبها في بيته، أو مكتبة يرتادها ولو لم يشترِ منها شيئًا. تلك الأماكن التي تملؤها الكتب القديمة، ليست مجرد رفوف، بل تواريخ مفتوحة، كل غلاف فيها يحكي رواية مزدوجة: الرواية التي كتبها المؤلف، والرواية التي كتبها القارئ في ذاكرته. الكتب تشبه الناس. بعضها نقرأه مرة وننساه، وبعضها نرجع إليه مرة بعد مرة لأنه يشبهنا أو لأنه يذكّرنا بمن كنا. ورائحة الكتب، في هذا السياق، ليست فقط عامل جذب عاطفي، بل مفتاح خفيّ يفتح أبوابًا مغلقة في النفس. كلما شممنا تلك الرائحة، سافرنا عبر الزمن، وعدنا إلى أنفسنا. ولعل في هذا السفر ما يُشبه المعجزة. فهل نقرأ لنفهم العالم؟ أم لنستعيد ذاتنا المفقودة في رائحة كتاب؟ نحب المكتبات القديمة لأنها تشبهنا عندما كنّا أنقياء. ولأن فيها شيئًا لا يمكن تقليده أو نسخه أو إعادة إنتاجه: الأصالة المشبعة بالحياة.
#ورق_ووعي #بالعربية_نكتب #الكتابة #وعي
التعليقات