” أتدري ماذا يطلقون على الأشجار التي تصمد عند حريق الغابات ؟ : الأموات الواقفين ! “

علاقاتٌ تلتهمها حرائقُ نفوسِنا

تُطالعنا الموروثات الدينية على قصة النبي نوح الذي أنذر قومه بقدوم طوفانٍ سيأخذ في طريقه الأخضر واليابس مُهلِكلاً كل الخلائق التي لن تمتنّ السفينة .. لكن في تاريخنا المعاصر ربّما تداعى البشر أمام طوفانٍ من نوع آخر .. طوفانٍ تُعَبِر عنه الفجوة التي قسمت المجتمع الواحد إلى عدة فئات متباعدة لا تستطيع التماهي معاً وكأن العالم أصبح لا يسعنا على إختلاف أوضاعنا الإجتماعية .. وإنطلاقاً من هُنا يقدم لنا بول دانو شخصية جيري برينسون الذي يقرر ترك زوجته وإبنه المراهق للتطوع في إخماد حرائق الغابات ليجعلنا نتساءل عن المعني في حريقٍ طال كلَ شيء حتى نمت مآثره في أرواح البشر الذين تخفتُ روابطهم شيئاً فشيئاً .

منذ بداية الأحداث تتّضح لنا تلك الهُوَة المجتمعية التي تغول في حياة جيري ويحاول التغاضي عنها ؛ حيث يعمل في نادي يضم أثرياء المدينة فنجده يسعى للتقرب لهم كأداء بعض المهام عنهم أو حتى يصل به الأمر أحياناً لتهذيب أحذيتهم .. يشعر جيري بعدم التحقق أو الإندماج الكُلي مع مجتمعه لشعوره بالنقص أو فوقية الآخرين عليه مما يُدمغ حياته بشيءٍ من الترحال فينتقل هو وأسرته نحو بقاعٍ أخرى علّه يجد مكاناً يصبح فيه منسجماً مع أفراده .. ينعكس شعور جيري بعدم التحقق أيضاً في رغبته لجعل إبنه يصنع ما أخفق هو فيه في صِباه لذا نجده يتحدث إليه عن آماله القديمة في أن يصبح لاعب كرة وإدراكه أن الأمر ليس بالسهولة التي توقعها .. هذا التناقض بين أحلام جيري الدفينة وبين ما هو عليه الآن يُشي بآلامه الخاصة ومأساتِه الإجتماعية التي تقبع في نفسه إلى الدرجة التي جعلته يشتري عصا الجولف ويتخيل في ساحة منزله الصغيرة كأنه يلعب كباقي أثرياء النادي حيث يشعر بقزمية حياتِه وكينونته الضئيلة أمامهم .. يتم تسريح جيري من عمله لتعدّيه حدود التعامل مع هؤلاء القوم وفي ظل محاولاتِه اليائسة لإيجاد فرصة عملٍ أخرى يتعثر بطلبات التطوع لإطفاء حرائق تلتهم الغابات من حوله فيشعر أنه بحاجة إلى ذلك العمل ؛ وكأن في ذلك مجازاً لحريق نفسه الذي لا يهدأ منذ أن شعر بتبدد أحلامه وإنسحاقها تحت أقدام مجتمعٍ طبقي لا يعترف بأحقيته في الحياة .

يقدم لنا بول دانو طيلة الفيلم مساحاتٍ واسعة وفضاءاتٍ من صور الحياة العادية كأعقاب السجائر .. كاسات النبيذ التي تُترك قبل إنهائها .. ملاءات الأسِرّة التي تقول أن أحداً كان هُنا يحيا .. يفرط دانو في عرض تلك الفضاءات الساكنة التي تعبر عن وجود الحياة في المكان لكن دون استشعارها بشكلٍ حيوي في علاقات الشخصيات .. فالأب يترك أسرته باحثاً عن ترميمٍ لأزمته .. والأم تهمل صبيّها وتحب عجوزاً ثرياً تظن أنه الملاذ الأخير لإنتشالها من واقعها المُدقع .. والإبن بين كل ذلك تتصاعد بداخله الوحدة واليأس من إعادة شمل أبويه .. فكما عُرف الواقعي الأمريكي إدوارد هوبر بلوحاته التي تنقل الحياة الأمريكية المعاصرة بين الإغتراب والوحدة والشعور بالضيق والخوف والقلق خاصةً فيما تلا الحرب العالمية يقدم لنا دانو بكادراتِه تكوينات مشابهة حيث نرى شخصياتنا من زاوية خارجية عن الحدث الذي يعيشونه كرؤية من خارج نافذة المنزل وقد إنزوى الأب والزوجة والإبن كلٌ في مكان مفترق صامتاً منفرداً بذاته بعيداً عن الآخر .. أو أن نراهم من خلف زجاج مطعمٍ وهم يتحدثون ببرودٍ وجفاف لا ينظرون كثيراً في عيون بعضهم بل تغور أبصارهم صوب الطريق الذي خلا من المارة .. تلك الرؤية الخارجة عن إطار الحدث لها دلالاتها حيث نصبح كمن ينظر إلى الصورة الكاملة مقيمين الموقف الراهن ومحاولين إلتماس الأعذار لأبطالنا الذين جرّدهم هذا العالم الموحش من علاقاتهم وروابطهم المفتولة سابقاً .

تجري أحداث الفيلم في الستينيات وهي الفترة حيث كانت الحرب الباردة بين السوفييت وأمريكا في أوجها والتي تُصنف إقتصادياً على أنها العصر الذهبي للفكر الرأسمالي بعد الحربين العالميتين .. ورغم هذا التنامي الإقتصادي إلا أنه قد أحدث إنقسام في المجتمع محولاً إياه إلى طبقاتٍ .. بقراءة الفيلم من هذه الزاوية سنجد الأم تجنح إلى إرساء تلك القيمة في صبيّها فحين سأله مالك مصنع للسيارات عن طموحه المستقبلي وأجاب بأنه يود العمل في السكك الحديدية طلبتْ منه الأم أن يحلم بأن يصبح مثل الثري بدلاً من ذلك . في حين أن الأب يرفض تلك الآلية في تحديد قيمة البشر بل ولا يقبل بأن يعمل ثانيةً لدى الأثرياء بعد إهانته .. يصف الفيلم تلك الحالة الحداثية من الإنفصال الأيديولوجي التي ألقت بظلالها على الروابط داخل الأسرة دون إبداءٍ رأي واضح هو فقط يعبر عمّا آل إليه الوضع فالكُل مشوش خاصةً الإبن الذي يسأل والده في النهاية قائلاً : ” ماذا سيحدث لنا ؟! ” .. سؤالٌ هو لسان حال المجتمع الذي أضحى في أكثر حالاتِه إغتراباً وهشاشة وأصبح الكُل يشغله فقط معالجة حرائق نفسه التي أجَّجتها أحطاب التباعد الطبقي .

هل حقاً الفارق المجتمعي الذي أخلفته الحياة الرأسمالية هي السبب الرئيسي لتداعي علاقات الأسرة الواحدة فأصبح المرء في توق لإثبات ذاته أمام الجميع تاركاًً وراءه كل شيء ؟! بقراءة الفيلم سنجد أمثلةً لمثل ذلك بالإضافة إلى جيري و زوجته فالرجل الثري أيضاً يذكر أن زوجته قد تركته دون إبداء أسبابٍ لذلك .. حتى يستعرض لنا الفيلم عند نهايته قراراً إتخذه الإبن بأن ترك والده حين طلب المساعدة وراح يهرول خوفاً من قدوم الشرطة .. في هذا التسلسل تعبيرٌ عن حالة النشء الذي وجد نفسه في مجتمعٍ قد تفكك إلى ذروته فما كان منه غير التماهي مع الوضع التي تأصّل في داخله وأفقده غريزة الترابط التي وُجِدْنا حامليها . فبإستعارة الرمزية التي استخدمتها الأم في حديثها عن الأشجار التي تظل قائمة عند تفشّي الحرائق بأنها مثل الأموات الواقفين قد بدا ذلك وكأنها تتحدث عن واقعها في ظل قدوم مفاهيم حديثة إلى المجتمع أدت إلى أُفول عصر المشاركة فصار كلُ فردٍ يسعى لمصلحته الخاصة .. وقتها لن نصبح أمواتاً لتضعف أجسادنا هاويةً على الأرض .. ولا حتى أحياءً تنبض فينا روحُ الحياة .

لتأتي نهاية الفيلم كبورتريه صامت لتلك الأسرة التي تود إلتقاط صورة للذكرى .. تفصل بينهم مسافاتٌ تعكس إفتراقهم الداخلي .. لا يبتسمون أو يُبدون أيةَ مشاعر فقط ملامح باهتة تعلو ثغورهم .. تلك التعبيرات الكئيبة التي وصمتْ علاقات القرن الحالي إلى أن أصبحنا نمضي حاضنين فردانيتنا ووحدتنا إلى الأبد !