رغم أن الحضارة الإسلامية كانت في يوم من الأيام من أعظم حضارات الأرض، إلا أنها انهارت بطريقة محزنة ومحيرة. كيف لدولة امتدت من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، وشهدت أعظم نهضة علمية في العصر العباسي، وبنت حضارة فريدة في الأندلس، وامتلكت أطول خلافة في التاريخ مع الدولة العثمانية، أن تسقط بهذا الشكل السهل؟ السبب لم يكن في العدو الخارجي، بل في الضعف الذي بدأ من الداخل. الأمة الإسلامية تفككت إلى دويلات متناحرة، كل حاكم يفكر في عرشه لا في الأمة كلها، حتى فقدت وحدتها التي كانت سر قوتها. ثم توقف الاجتهاد، وتجمدت العقول، وماتت همم العلماء، بعدما ملأ الدنيا أمثال ابن سينا، والخوارزمي، وابن الهيثم، والرازي، والفارابي، وابن رشد، والزهراوي، والبيروني وغيرهم. انشغلت الأمة بالقصور واللهو والفتن، وخمدت روح الاكتشاف والبحث والإبداع.

في الوقت الذي كان الغرب يترجم كتب علماء المسلمين، كان المسلمون يغلقون أبواب الاجتهاد، ويمنعون الفكر الحر. حتى جيوشهم، التي كانت تقاتل بإيمان وعقيدة، صارت تدافع عن سلطانها لا عن الأمة، وانشغل الناس بالتفاهات والترف ونسوا البناء والعلم. كانت الأمة مثل البناء الجميل الذي نخرت أساساته الديدان، حتى إذا جاء العدو الخارجي لم يجد أمة قوية، بل جسداً ميتاً ينتظر السقوط. هكذا سقطت بغداد في يد المغول بسهولة، وهكذا ضاعت الأندلس على يد الصليبيين، وهكذا انتهت الدولة العثمانية بأيدي أبنائها قبل أعدائها. المرض كان في الداخل، كما أن صندوق الطماطم لا يعفن من الخارج، بل من أول حبة فاسدة داخله. الأمة ظنت أن المظهر القوي يغنيها عن الجوهر السليم، لكن حين جاءت اللحظة الحاسمة، انهار كل شيء بسرعة مذهلة.

ولعل المصيبة الكبرى أن هذا السقوط لم يكن حتمياً، بل كان يمكن منعه لو بقيت الأمة متمسكة بأسباب القوة: وحدة الكلمة، عدل الحكام، حرية الفكر، واجتهاد العلماء. لكن هذه القيم ماتت بالتدريج، كما تموت الشجرة حين يُقطع عنها الماء ببطء. اليوم يتساءل كثيرون: هل يمكن أن تعود الحضارة الإسلامية إلى مجدها؟ لكن المشكلة أن الأمة قبلت منذ قرن أن تعيش مقسمة إلى عشرات الدول الصغيرة، كل منها تديرها نخبة سياسية تخاف أن تعود الأمة جسداً واحداً من جديد. ربما كان الشكل الطبيعي لهذه الأمة هو أن تكون مثل اتحاد مدن كبرى قوية، كما كانت من قبل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، وقرطبة، وسمرقند، ومكة... مدن عظيمة متصلة بثقافة واحدة، لا تفصل بينها حدود ولا قوميات ضيقة.

أما شكل الدولة الحديثة الذي زرعه الاستعمار في عقول الناس، فهو سجن كبير، يمنع هذه المدن من أن تتحد من جديد. ربما لو انهارت هذه الدول القومية يوماً، أو تحولت إلى اتحاد مرن، لبدأت النهضة من جديد. لأن الأمة لا تموت جسداً، بل تموت روحاً، وما دامت الروح موجودة في قلوب بعض أبنائها، فالبعث ممكن.

لكن الأمل الحقيقي ليس في تغيير الجغرافيا، بل في تغيير النفوس. هذه الأمة لم تفقد العقول العظيمة، لكنها فقدت الاعتراف بهذه العقول. فاليوم لدينا علماء في كل ميدان يعيدون سيرة الخوارزمي وابن سينا، لكن لا أحد يعرفهم. من يعرف اليوم بلقاسم حبة، رياض قسوم، لطفي بوزيد، كمال بوزيدي، مالك شيباني، عبد الحميد بن علي، نورية بقادي، محمد صديقي؟ من يعرف منصف السلاوي الذي قاد أبحاث اللقاحات في العالم؟ من يكرم مجدي يعقوب في مصر أو أحمد زويل؟ من يسمع بمحمد فارس رائد الفضاء، أو مصطفى سليمان مؤسس تقنيات الذكاء الاصطناعي؟ من يتحدث عن مريم ميرزاخاني العالمة النادرة في الرياضيات؟ بل من يقرأ أبحاث نديم عبد السلام في الرياضيات أو عاطف عبد الله في الفيزياء؟

ربما لا تعرفهم الأمة، وهذا وحده يبرر سبب انحطاطها. كيف لأمة أن تنهض وهي لا تكرم عقولها كما فعلت من قبل مع ابن سينا والخوارزمي؟ في الماضي، كان الخلفاء يرسلون في طلب العلماء، يجمعونهم في قصورهم، يدعمون أبحاثهم، يرفعون قدرهم فوق الجنود والوزراء. أما اليوم فالعلماء يعيشون في الظل، يهاجرون إلى الغرب ليجدوا هناك ما لم يجدوه في بلادهم، والإعلام يرفع المغنين والراقصين والرياضيين والسياسيين الفارغين، بينما أصحاب العقول ينسون. هذه ليست مصيبة جهل فقط، بل كارثة حضارية. أمة تنسى علماؤها هي أمة تموت، مهما كان عدد سكانها كبيراً، ومهما ملأت أسواقها بالبضائع.

ومع هذا فإن نور الأمل لم ينطفئ. لأن هذه العقول العظيمة لا تزال بيننا. وما دام في الأمة من يؤمن بالوحدة فوق القومية، بالعلم فوق التقليد، بالعدل فوق الظلم، فإن البذرة موجودة. عودة الحضارة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى جيل يحرر العقول، ويعيد للعلماء مكانهم الحقيقي، كما كان في العصر الذهبي. هذا أصعب من بناء السدود والقصور والجيوش، لكنه ممكن. لأن ما سقط يمكن أن يقوم، وما ضاع يمكن أن يعود إذا تبدلت النفوس وصحا الضمير، وارتفعت الهمم.

الخاتمة أن هذه الأمة لم تنتهِ بعد، ولا زال التاريخ ينتظر أن تنهض من جديد. الفرصة قائمة، والطريق معروف، لكنه يحتاج من يمشيه بصدق وعزم، كما فعل الأجداد يوم بدأوا حضارة غيرت وجه الأرض.