كثيرٌ ممن يقرأ كلماتي الآن يظن أن الوعي الحقيقي هو أن يعي المرء الأمور الدنيوية مبكرًا، كفهم طبائع البشر بمختلف أنواعهم وثقافاتهم، أو أن يعي ما يقرأه من العلوم الوضعية الدنيوية، أو غير ذلك.

لكن الوعي المبكر الحقيقي هو أن تعي دينك؛ فهذا مكمن الوعي الحقيقي الذي يسعى إبليس وأعوانه لصرف الناس أجمعين عنه بملهيات الحياة ومشتّاتها.

وهذا الوعي إنما يأتي بخطوة واحدة فقط من المرء، وليس بخطوات أو إجهاد كما تفعل في سائر أمور الدنيا: كجمع المال الذي يحتاج إلى سعيٍ شديد لتذوق حلاوة النعيم الزائف الزائل، أو السعي لاكتساب وظيفة، أو السعي لتحقيق هدفٍ معين.

كل ذلك -يا عزيزي- يحتاج لمئات، إن لم يكن آلاف الخطوات، لتبدأ فقط في تحصيل النشوة التي تريدها النفس، على عكس ذلك تمامًا في السعي لأمر دينك، الذي يحتاج فقط إلى خطوةٍ واحدة، تبدأ معها الشعور بالسعادة والوعي الحقيقي، الذي لا يشوبه وهمٌ ولا زيف.

الوعي الذي يجعلك تفهم حقائق الأمور والمعنى الحقيقي للحياة، الوعي الذي يُغنيك عن أي أمرٍ من أمور الحياة، وتُدرك حينها المعنى الحقيقي لقول الله عزّ وجلّ:

{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.

وهذا الوعي -يا عزيزي- يأتي بخطوةٍ واحدة فقط، كما أخبرتكم، وليس هذا قولي، إنما هو قول ربي وربكم؛

فكما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرّب إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليَّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً".

فالشاهد في هذا الحديث -يا أحبّتي- والذي لم يلتفت إليه الكثير: قوله "وإن تقرّب إليَّ شبرًا"، وهذه أقلّ من خطوةٍ حتى، فما إن تقرر أن تقترب من ربك خطوةً واحدة عن طريق معرفة الدين، لتجد نفسك وقد فُتحت أمامك الآفاق، وانكشفت أمامك الحقائق والخفايا، وحُلّت عُقد حياتك، عُقدةً تلو الأخرى، لتَرى نفسك وقد تذوقتَ حلاوة دينك، وذلك مع بداية طلبك للعلم الشرعي، لا بعد مدةٍ من طلبه.

واعلم -وفقني الله وإياك- أنك يومًا ما ستعلم يقينًا أن حياتك كلها مرتبطة بدينك، فتدرك وقتها أن مزاجك مرتبط بدينك، وسعادتك مرتبطة بدينك، وأن ما تبحث عنه نفسك وتتوق لتذوقه، وهو في غشاوة عنك بسبب الشيطان، هو دين.

فعجّل في استدراك هذا اليوم، ولا تجعله ينكشف لك متأخرًا، فهذا الوعي الحقيقي قد يأتيك في العشرين من عمرك، أو الثلاثين، أو الأربعين، أو الخمسين، أو حتى في أواخر أيام حياتك، فتكون من المبلِسين الذين أضاعوا سنين طوال في وهم، تائهين، حائرين، ظانين في الحياة الظن الخاطئ.

فلا تغتر بمنصبك العظيم وأنت مضيّع لأمر دينك، ولا تغتر بواسع علمك في جميع العلوم وأنت جاهلٌ بدينك، ولا تغتر بمالك الكثير وأنت مضيّع لدينك، ولا تغتر بشهرتك الساحقة وأنت مضيّع لدينك.

بئست الحياة إذن!

فكيف لعاقلٍ من كل تلك الأصناف وغيرها من الناس، الذين يغترّون بما لديهم وهم مضيعون لدينهم؟

كيف لهم، والأمر كلّه عند الله دين!

النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- كان يربط كل شيء وكل أمرٍ من أمور الدنيا بالدين، واليوم آخر ما ينظر إليه المرء منا هو الدين!

فلا يعرف المرء أن الغِنى يكون بـ "لا إله إلا الله"، لا بالمال،

وأن السعادة تكون بالقرب من الله، لا بالقرب من ملذّات الحياة.

انقلبت الموازين تمامًا، وبعُد الناس عن الدين، فتاهوا، وأضلّوا الطريق، وأصبحت الحياة للناس مثل الغابة: مُبهمة، غير مفهومة؛

فالأخ يقتل أخاه، والرجل يعذب طفلته ويهشم جسدها، وآخر ينتهك حُرمة طفل، وهذا يقتل حيوانًا، وذاك ينتحر بسبب فتاة تعلّق بها في علاقة محرّمة وغير شرعية، وآخر يطعن في الدين فيضل كل أولئك. وهؤلاء يُسجَنون وهم خيرة أهل الأرض!

وهؤلاء يدعمون الفساد فيصعد، ويهاجمون الخير فيهبط ويندثر.

والكل يقف في وقتٍ ما من حياته ليقول: "ماذا حدث للدنيا؟!"، وكأنه هو الصالح الذي لم يفعل شيئًا، وهو مشاركٌ -لا محالة- في هذا الفساد كلّه.

صدق الله، وهو أصدق القائلين، عندما قال:

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... لماذا يا ربِ ؟!! -- لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

فالحل يكمن في الرجوع إلى الله، لينتهي كل هذا الفساد أجمع،

أن يبدأ كل إنسان في العكوف على طلب العلم الشرعي،

وأن يحرص الآباء كل الحرص على تعليم أبنائهم العلم الشرعي أولًا، وقبل أي شيء،

حتى يخرج الابن أو البنت سويًا، متّزنًا، فطنًا.

واعلم -وفقني الله وإياك- أن كل أمرٍ سيئ قد تم غرسه في دماغك عن دينك، هو خطأ جملةً وتفصيلًا؛

فالمتصدرون الآن الشاشات هم أهل الضلال والعُصاة والفَسَقة، ممن يسعون لهدم ذاك الدين، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره ولو كره المشركون.

اسأل نفسك: ماذا تعرف عن دينك؟

هل تعرف أركان الصلاة؟

أين ربك؟

ما هي نواقض الوضوء؟

ما هو حد القذف؟

ما هو حد شارب الخمر؟

العجب كل العجب أن الشيطان يُزيِّن للمرء -بطريقةٍ خبيثة- أنه يعلم كل شيء، وما هو بعالم!

وذلك أحد الأسباب التي تجعل المرء متأخرًا، وعائمًا في "مية البطيخ" كما يقول المصريون.

فالخطوة الأولى هي أن تعلم أنك جاهل مهما بلغتَ من العلم،

ثم ترجع إلى الله بنيّةٍ صادقة، وتبدأ بطلب العلم الشرعي.

وأقسم بالذي أحل القسم: ما إن تبدأ في طلب العلم الشرعي، ستتغير حياتك بأكملها، بل ومفاهيمك للحياة من أول بدايتك في الطلب، كما أوضحنا؛

فترى أن الحياة أصبحت ذات معنى، فيقيم الله حياتك كلها؛

فما إن تتقِ المولى عزّ وجل، حتى تُصبح وليًا من أوليائه.

ثم ماذا؟!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه"

رواه البخاري.

تأمّل هذا الحديث جيدًا،

فماذا تريد أكثر من ذلك، أحبتي؟

ها قد كشفتُ لكم عن الوعي والإدراك المبكر الحقيقي،

فلا تؤخروه أكثر من ذلك.

ربما من يقرأ كلماتي الآن شاب أو شابة في مقتبل عمرهم،

وربما من يقرأ كلماتي من هم في أواخر عمرهم،

فماذا تنتظرون بعد؟!

أما آن الأوان لتُقبل على خالقك؟

أما آن الأوان لتعرف ما ينقصك؟

أما آن الأوان لتملأ الفراغ في حياتك؟

أما آن الأوان لتُجيب صراخ روحك وتُدثّر روعها بما تريد؟

اقترب

قبل أن يقترب ملك الموت منك ليقبض روحك وأنت لا تعلم عن ربك شيئًا.

واعلم أن الأمة لن ينصلح حالها، وينتهي ذلك الفساد، إلا إذا أصلح كلٌّ منا نفسه أولًا.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

فالتغيير يبدأ منك يا عزيزي القارئ.

دعك من أي شيء، وابدأ فقط.

والله أعلى وأعلم.