*بعد جائحة كورونا: هل تعلم العالم الدرس أم أننا ننتظر الكارثة التالية؟
مرت سنوات على اليوم الذي توقف فيه العالم فجأة، سنوات على الشوارع الفارغة، وصفارات الإنذار التي لا تهدأ، والخوف الذي تسلل إلى كل بيت. جائحة كوفيد-19 لم تكن مجرد أزمة صحية، بل كانت كاشفًا حضاريًا عرّى هشاشة أنظمتنا، وفضح أولوياتنا، وأعاد تعريف علاقتنا بالمجتمع والعالم. واليوم، بينما نحاول طي تلك الصفحة المؤلمة، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل تعلمنا الدرس حقًا؟
1. الاستعداد للوباء القادم: وهم الجاهزية
هل البشرية مستعدة لوباء جديد؟ على الورق، تبدو الإجابة "نعم". فقد تم تحديث بروتوكولات الطوارئ، وزادت الاستثمارات في مراقبة الأوبئة، وأصبحت تقنيات مثل mRNA لإنتاج اللقاحات أسرع من أي وقت مضى. لكن الجاهزية الحقيقية ليست مجرد بنية تحتية، بل هي ثقة وتعاون. الشاهد الواقعي هو التفاوت الصارخ في توزيع اللقاحات خلال أزمة كورونا، والذي عُرف بـ "قومية اللقاحات" (Vaccine Nationalism)، حيث قامت الدول الغنية بتخزين جرعات تفوق حاجتها بكثير، بينما تُركت دول أخرى تنتظر. هذا الشرخ في الثقة الدولية يُنذر بأن الوباء القادم قد يشهد نفس الأنانية، مما يثبت أن استعدادنا التكنولوجي قد لا يوازيه استعدادنا الإنساني والسياسي.
2. العالم العربي: بين استيعاب الصدمة وتناسي الدرس
في عالمنا العربي، كان الدرس مريرًا ومزدوجًا. لقد كشفت الجائحة عن ضعف مزمن في البنى التحتية الصحية والاعتماد المفرط على الخارج في كل شيء، من أبسط المستلزمات الطبية إلى اللقاحات. الشاهد الواقعي هو مشاهد الاكتظاظ في المستشفيات ونقص الأكسجين التي شهدتهاعدة دول عربية في ذروة الأزمة، مما كشف عن فجوة هائلة بين القدرة الاستيعابية والطلب الفعلي.
هل استوعبنا الدرس؟ جزئيًا. شهدنا مبادرات واعدة مثل إعلان السعودية والإمارات عن خطط طموحة لتوطين الصناعات الدوائية والبيوتكنولوجية. لكن على الجانب الآخر، بمجرد انحسار الموجة، عادت الكثير من الأولويات القديمة لتطغى على المشهد، وبدأ الحديث عن الاستثمار في الصحة الوقائية يتوارى خلف تحديات اقتصادية آنية. الخطر يكمن في أن تكون ذاكرتنا قصيرة، وأن نعتبر الأزمة مجرد كابوس عابر بدلاً من كونها إنذارًا أخيرًا.
3. تغيير الأولويات: حقيقة أم مجرد شعارات
أجبرت الجائحة الحكوماتت في أكثر الدول تضررًا على إعادة ترتيب أولوياتها بشكل جذري ومؤقت. فجأة، أصبحت الصحة والتعليم الرقمي والاقتصاد المحلي هي العناوين الرئيسية. الشاهد الواقعي هو حزم التحفيز الاقتصادي الضخمة التي أطلقتها دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة، والتي لم تكن موجهة فقط للشركات الكبرى، بل شملت دعمًا مباشرًا للأفراد والشركات الصغيرة، وهو تحول كبير في الفكر الاقتصادي.
لكن السؤال الأهم: هل هذا التحول دائم؟ هناك دلائل مقلقة على العودة إلى "الوضع الطبيعي القديم". فمع عودة الاستقرار، بدأت النقاشات حول التقشف وخفض الإنفاق العام تعود للواجهة في بعض الدول الأوروبية. إن الاختبار الحقيقي ليس في إدارة الأزمة، بل في ترسيخ دروسها في ميزانيات وسياسات طويلة الأمد تضع صحة المواطن وتعليمه كاستثمار لا كعبء.
4. نماذج يُحتذى بها: حكمة في وجه العاصفة..
في خضم الفوضى العالمية، برزت دول تعاملت مع الأزمة بحكمة واقتدار، مقدمةً دروسًا يمكن للعالم أن يتعلم منها. الشاهد الواقعي الأبرز هو **تايوان وكوريا الجنوبية. لم تعتمدا على الإغلاقات الشاملة والمطولة، بل على استراتيجية "الاختبار، التتبع، العزل" (Test, Trace, Isolate) بكفاءة مذهلة، مع استخدام التكنولوجيا بشفافية لكبح تفشي الفيروس. الدرس هنا ليس تكنولوجيًا فحسب، بل هو درس في الثقة المجتمعيةحيث التزم المواطنون بالإجراءات لأنهم وثقوا في حكوماتهم التي كانت تتواصل معهم بوضوح وصدق. هذه النماذج تثبت أن مواجهة الأوبئة لا تتطلب فقط العلم، بل تتطلب عقدًا اجتماعيًا قويًا.
5. الجائحة الصامتة: الأثر النفسي المتغلغل
ربما يكون الإرث الأكثر خطورة والأقل وضوحًا لجائحة كورونا هو أثرها العميق على الصحة الشاملة. لقد تعافت الأجساد، لكن النفوس والمجتمعات ما زالت تحمل ندوبًا غائرة. الشاهد الواقعي هو الارتفاع العالمي الموثق في معدلات القلق والاكتئاب والاحتراق النفسي، خاصة بين العاملين في الخطوط الأمامية والشباب. نشهد اليوم أزمة "الوحدة" المتزايدة، وتآكل المهارات الاجتماعية لدى الأطفال الذين قضوا سنوات تكوينهم خلف الشاشات، وزيادة الاستقطاب السياسي الذي غذته العزلة والمعلومات المضللة.
هذه "الجائحة الصامتة" لا تظهر في الإحصاءات اليومية للحالات والوفيات، لكنها تتغلغل في نسيج مجتمعاتنا. إنها قنبلة موقوتة تهدد الإنتاجية، تفتت العلاقات الأسرية، وتزيد العبء على أنظمة صحية غير مهيأة أصلًا للتعامل مع أزمات الصحة العقلية بهذا الحجم. الاعتراف بأن التعافي الجسدي ليس نهاية القصة هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو بناء مجتمعات قادرة على الصمود حقًا في وجه أي أزمة مستقبلية.
في الختام، لم تكن جائحة كورونا مجرد فيروس، بل كانت مرآة عكست أفضل ما فينا وأسوأ ما فينا. لقد أظهرت قدرتنا المذهلة على الابتكار العلمي، وفي نفس الوقت، أنانيتنا وقصر نظرنا. إن تجاهل دروسها العميقة لن يكون مجرد خطأ، بل سيكون خيانة لأرواح الملايين الذين فقدناهم، وضمانًا بأننا سنكرر نفس المأساة مرة أخرى، ربما بشكل أسوأ.
التعليقات