منذ ما يُقارب العام أو أكثر قليلًا تمكنت من حسم أمري وزيارة الطبيب النفسي، بعدما قاسيت الأمرين مع الآلام النفسية على مدار عمري، وانتهى بي الحال بآلام جسدية لم يُعرف سببها بعد إجراء جميع الفحوصات. شعرت بأني قد وصلت لعمر الشيخوخة مع هذه الآلام التي لا تتوقف بتاتًا. تُصاحبني ليل نهار، حتى في نومي لا تتركني. 

بدأت أخبر الطبيب عن ما يختلجني من مشاعر وآلام مبرحة، وهو استمع لي بصبر وتفهم تام ليُخبرني بعد انتهائي من الحديث أني مصابة باضطراب ما بعد الكرب، أو اضطراب ما بعد الصدمة النفسية واختصاره PTSD. ثم بدأ في اخباري عن سير العلاج، والذي سنعتمد فيه على العلاج الدوائي للأسف، إضافة إلى علم النفس المعرفي السلوكي. 

حقيقة لا أُخفيكم أمرًا بأنني ارتحت بهذا التشخيص، بالطبع ليس لكونه بسيطًا أو أخف من غيره، فهو يكاد يكون شديد بقدر أعظم الآلام الجسدية والنفسية. ولكن راحتي كانت تنبع من إيجاد سبب وأخيرًا لجميع آلامي، وسلوكياتي الغريبة. لاضطرابي، وتوتري، وقلقي. عرفت أن اضطرابات الشهية التي أصابتني في الفترة الأخيرة، حيث تحولت من كوني شخص متوسط الوزن، لا يأكل كثيرًا لفيل متحرك، يأكل الأخضر واليابس. قد يستيقظ في الثانية بعد منتصف الليل ليتناول أي شيء يقع بين يديه. لا ينهض من على طاولة الطعام قبل التأكد من أن كل الأطعمة قد نفذت وصارت الأطباق بيضاء ناصعة كبياض الثلج. حتى ولو كان الشبع قد بلغ مني مبلغه الشديد ولم يكن بي من الجوع شيئًا. النوم الطويل، الاكتئاب العميق، فقدان مشاعر عديدة كالتعاطف والحب، الأعصاب المتحفزة بشدة ... وغيرها من الأمور والمتغيرات السريعة التي ما كان لها من سبب عندي. 

أول سؤال خطر في بالي بعد سماع التشخيص كان ما هو اضطراب ما بعد الكرب؟

كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي اسمع فيها عن مرضٍ نفسي بهذا الاسم. اعرف الانفصام، الوسواس القهري، ولكن هذا لا. بدأت في البحث على الإنترنت وفي أوساط أصدقائي من الأطباء لأتعرف على مُرافقي الجديد فعرفت أنه اضطراب نفسي يُصيب الإنسان بعد تعرضه لحوادث عنيفة، سواء كانت تلك الحوادث مجرد مشهد رآه في وقت ما، أو تعرض له بشكل شخصي. وتشترك هذه الحوادث كلها في كونها عنيفة لدرجة شعور المرء أن حياته كانت في خطر. جدير بالذكر أن عظم الحادثة أو صغرها لا يفرق في هذه النقطة. بل الأهم هو مدى قوة شعور الخطر الذي يُصيب المرء. 

الأخطر أيضًا من هذا أن هذا الاضطراب قد لا تظهر أعراضه على المرء إلا بعد سنوات طويلة من الحادثة التي كانت سببًا في اصابته بهذا. عندما زُرت الطبيب كان عمري 28 عام تقريبًا. وما تعرضت له من صدمات في حياتي يسبق هذا العمر بعشر سنوات على الأقل إن لم يكن أكثر. 

الأمر الآخر الذي توصلت إليه ببحثي كان السمات النمطية لاضطراب ما بعد الصدمة. حيث أن المصاب يكون دائمًا خائفًا مرعوبًا من أن يأتيه وقت أو موقف مؤلم مرة أخرى، فيفعل كل ما في إمكانه لتجنب أي شيء يذكره بالألم أو بالصدمة التي تعرض لها. أيضًا المصاب يكون على الدوام مضطربًا، شديد الانفعال، عرضة للقلق، أو للغضب المبالغ فيه على أشياء تافهة. بالطبع ليست كل الأعراض تظهر، ربما يظهر عرض دون آخر. كل هذا إضافة إلى الاكتئاب والألم. 

كنت اقرأ هذه الكلمات وأنا اتذكر كل مرة كنت أقدم فيها على الخروج لقضاء أمر ما، أو السفر فأجد نفسي مضطربة بشدة، قلقة، مصابة باضطرابات القولون الشديدة ابتلع كل ما أجده في طريقي من دواء لوقفها ولكن دون فائدة. تذكرت تلك المرة التي حطمت فيها التابلت الخاص بي لأن شخصًا ما قال كلمة ازعجتني. وتلك التي حطمت فيها كرسي طفلي معبرة عن غضبي من فعل ما. صراخي الدائم. شجاري مع الهواء الذي يمر من أمامي. خوفي من كل تجربة جديدة، خوفي من النقد، الآلام الجسدية والنفسية كانت تشكل لي رعبًا لا حدود لها. 

شتان بين أن يكون المرء جاهلًا بما يُصيبه من آلام، وبين أن يكون مدركًا لحقيقة الوضع ومتفهمًا لكل شيء يحل به. 

وهذا يقودني إلى ذكر معلومة عرفتها أثناء البحث، وهي أن مريض الاضطراب يشعر بأنه غير مسيطر على نفسه ومن ثم يفقد القدرة على التعرف على الشخص الذي كان عليه من قبل، مما يملأه بشعور قاتل بأنه غير قادر على عيش حياة طبيعية كالجميع فيميل تدريجيًا إلى الانعزال عن الناس. 

اكتب هذا وجميع اللحظات التي تخليت فيها عن شيء ابتغي فعله أو أتمنى أن أحارب عليه تتمثل أمام عيني، حيث كنت أجد نفسي ضعيفة، غير متحكمة ولا مسؤولة مما يجعلني غير قادرة على فعل هذا أو ذاك. 

سألني يومًا شخص ما لماذا أنتِ من أصبتِ بهذا دونًا عن كل من عاش واختبر معكِ نفس الأشياء؟ لم أجب فأنا لم أمتلك إجابة حينها. واليوم عرفت بأنه لا سبب أو تفسير لذلك سوى أن البشر مختلفون، وتأثير الأمر الواحد على شخصين هو شيء غير مفهوم. لماذا أصبت؟ لأن هذا قدري لا أكثر ولا أقل. 

أخيرًا تمكنت بالبحث إيجاد أعراض هذا الاضطراب، والتي تقريبًا كانت كلها قد أصابتني 

حيث أن الشخص يكن لديه في الكثير من الأوقات ذكريات ولمحات من الماضي، ربما تصاحبه على مدار يومه، وربما تهاجمه فجأة دون سابق إنذار. إضافة إلى مشاكل بالذاكرة والتركيز اللذان يتدهوران بشكل تدريجي. مشاكل النوم والكوابيس. الاكتئاب. القلق المستمر. إضافة إلى تغيرات في الشخصية. وأخيرًا الأعراض الجسدية التي ربما تكون بسبب أو بدون سبب في أغلب الأوقات. 

هناك عرضان آخران، ولكن لله الحمد لم يصيباني بعد، وهما الاضطرابات الفصامية والهلوسة، وتعاطي المخدرات والكحول. 

أخيرًا عرفت من البحث أن العلاج ليس شيئًا واحد ولكنه متنوع ومعقد، وللأسف يكون العلاج الدوائي مطلوبًا في عملية العلاج، حيث أن الدواء يساعد على إعادة مستوى هرمون الإجهاد الكورتيزول لمعدلاته الطبيعية. إضافة إلى تحقيق توازن في مستوى السيروتونين والنورانرينالين الناقلات العصبية للدماغ والمهمان للتركيز والذاكرة. 

كما يصاحب العلاج الدوائي العديد من استراتيجيات العلاج كالعلاج بعلم النفسي السلوكي المعرفي. والهدف من العلاج هو «تقليل الأعراض النفسية والجسدية، إضافة إلى ترسيخ أساس جيد للدعم المستقبلي من الطبيب والمتخصص والخدمات الاجتماعية» 

هذا كل ما توصلت إليه بالبحث، وهو ما فعلته وما فعله معي طبيبي خلال عام، بالطبع التغير ليس جذريًا ولكن نوعًا ما اتحسن بفضل الله. وما زالت الرحلة طويلة جدا جدا 

من رأيك كيف يمكن للمحيطين بالمصاب مساعدته على التعافي وتخطي الرحلة المؤلمة؟