إبتداءً لست في صدد البحث في هذه النظرية دلائلها و تفنيداتها، إنما أريد أن أضع هذه النظرية في سياقها الصحيح الذي انحرف منذ يومها الأول إلى يومنا هذا.


قبل أن أدخل في الموضع أريد أن أقول أن المشكلة التي أريد أن أناقشها في هذه النظرية، لا تختص بها نظرية التطور وحدها، بل يشاركها في ذلك كم هائل من المسائل العلمية، التي حُرّفت من كونها معارف بشرية جديدة توسع تصورنا للكون، إلى سلاح عقدي يستخدمه الملاحدة لدحض الإيمان، والعكس. وهذا ما يشوه مدلولات تلك المعارف، ويحجم تصورنا لها في الإطار العقدي؛ فيكون معتقدنا هو الحكم عليها، والدافع إلى البحث فيها أو عنها. بدلًا عن إعطائها حقها من التفسيرات التي تجعلها تستوعب كل ما يمكن أن يكون صحيحًا من المعتقدات، ومن ثم تكون حجًا على ما تبقى مما فسد منها.


البداية من قول الله عز وجل :("إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ") [الآية 59 من آل عمران]؛ وإذا كان عيسى بن مريم كما قال الله تعالى كمثل آدم، فآدم أيضًا كمثل عيسى؛ ووجه المقارنة في موضوعنا هذا هو: إذا جاءت امرأة لا زوج لها بولد، فأول ما يتبادر إلى أذهاننا هو أن ابنها ابن زنا (حاشا لمريم ذاك)، والحقيقة هي أن خلاف ذلك، وهو أن عيسى بن مريم - بأمر الله - بأم بلا أب.

وآدم مثل هذا؛ فإذا كانت كل الكائنات الحية لها سلف مشترك، وسبب تنوعها هو التطور، فإن ما يتبادر إلى الذهن - بسبب الشبه - هو أن الإنسان مثله مثل غيره ناشئ بالتطور، ولكن الحقيقة غير ذلك كما قال الله تعالى، فهو خلقه بيده، وأنزله من سمائه إلى هذه الدنيا.

وسواء أكان هناك تطور أم لا، فآدم خلق في السماء، ولا شيء في نظرية التطور يستطيع أن يثبت خلاف ذلك؛ فحتى لو وجدت الأحافير التي تربط تطور الإنسان منذ أن كان هومسابينس (وما قبله)، فهذا بلا قيمة لأنها لا تثبت أن شبيه البشر الذي وجد بالأحافير هو جدنا نحن البشر. فنحن نتحدث عن تدخل إلهي نستطيع معه تصديق أن عيسى بأم ولا أب، حتى لو كانت البديهة الساطعة تقول خلاف ذلك، ونفس المنوال نستطيع أن نصدق أن آدم خلقه الله بيده، حتى لو كان هناك تطور نشأت به كل الكائنات من سلف واحد.

الضابط في الأمر أن التدخل الإلهي قادر على أن ينقض أي بديهة، أو ناموس كوني يسير به الوجود؛ فمثلًا لو شاء الله أن يقضي على كل مخلوق الآن، وينشئ آخرين على نفس صورهم، فلا يكون بينهم وبين من هلك نسب أو صلة؛ فلو نظرنا لأحافير الأولين فأول ما يتبادر إلى أذهاننا أنهم سلف لهؤلاء الخلف؛ فهم ومن قبلهم على نفس الهيئة والصورة. ولكن في حقيقة الأمر، هم ليسوا كذلك، والسبب هو أن الأمر حدث بتدخل إلهي وليس بالناموس الكوني البسيط.

هذا والله أعلم، ورد العلم إليه أحكم.