قبل عقدين من الزمن بدأت رحلتي الشاقة بين الوحدة والألم، كنت قبلها أهوى الرفقة والصداقة وأبحث عن الأمان، أما اليوم وقد شارفت على الثلاثين من عمري صرت أشعر بالرغبة قي البقاء وحيداً، مستشعرًا ألمي ووحدتي في صمت وهدوء.

لا شيء أسوأ من الوحدة، إلا أن يكون وجودك مماثلاً لعدمه، حينما تكون كالعامل مساعد، كالصفر على اليسار، حينها تجتاح كل كيانك أسئلة وجودية تعبث بعقلك وتمزق كل أحاسيسك، يظن كل من حولك أنك مسكين، وأنت ترى نفسك أقل من ذلك، مغلوب، مهزوم، عاجز، مخذول، ميت، جثة تنبض بأنفاس باردة لا روح فيها، وكأنها وحش فظيع المنظر خرج من قبره في آخر الزمان.

أراقب دائماً كل ما يحدث حولي من خلف المرايا، التي تعكس لي نظرة الآخرين عني، آراني في عيونهم، كم امقت تلك الصورة، كم أكره ذلك المنظر، أشاهد نفسي الهزلية في خيالهم وهي تتصرف بغباء وبدائية، لا يعلم أحد كم أعاني لأرسم تلك اللوحة المسالمة أمام عيونهم الراصدة، لا يرى أحد منهم الجسد المشوه الأسود للرسام القابع خلف اللوحة، رسام يحول خياله إلى واقعه، ويبقى حبيس وهمه الدائم.

لو أنني أتمكن من تجاوز كل تلك السدود التي تفصلني عن الواقع، لو أنطق يوماً دون أن يمرر عقلي كلامي على كل تلك الفلاتر والمرشحات، لو أتصرف يوماً بعفوية دون الإلتزام بكل تلك القواعد والآداب، لو أني يوماً كنت حراً لأهرب من نفسي، لأهرب من حياتي من كل ما يؤلمني، لقد بدأ الألم يتفاقم للحد الذي يصعب معه تحمله، لقد جاوز الحد، وطفح الكيل.

اليوم أكمل عاماً آخر في تيه صحراء عقلي، محبوس هنا منذ عشرين سنة أو يزيد، لا يوجد ما يمكن عمله في تلك الأطلال البعيدة، إلا النظر إلى الأفق والبكاء، هل إلى خروج من سبيل؟!