تخيّل أن يومك يبدأ بلحظة بسيطة: تستيقظ وتلمس شاشة هاتفك، فتضيء بلطف كأنها تهمس لك "صباح الخير"... قد يبدو هذا تفصيلًا صغيرًا، لكنه ليس صدفة. هاتفك توقّع استيقاظك بذكاء، بناءً على عادات نومك في الأيام السابقة. الذكاء الاصطناعي لم يعد جهازًا ضخمًا يقطر من أفلام الخيال العلمي، بل صار كرفيق خفي يهمس في خلفية حياتك، يربّت على كتفك حين تتعب، ويقدّم لك المساعدة دون أن يطلب منك شيئًا في المقابل.

كثيرون يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي شيء بعيد، شيء لا يُلمَس ولا يُرى. لكن الحقيقة أنه بات يندمج في أدق تفاصيل يومنا حتى أصبح غير مرئي، كالأوكسجين. قبل سنوات، كان "الذكاء الاصطناعي" يثير الخوف، مجرد فكرة لرجل آلي متمرد في أفلام الخيال العلمي. اليوم، نستخدمه ونحن نعدّ القهوة أو نُحمّم أطفالنا. كم مرة طلبت من "سيري" أو "غوغل" أن يعرض لك وصفة أو يوقظك في الصباح؟ وربما لم تفكر يومًا أنك بذلك تشغّل تقنية معقدة تفهم لغتك وتحلّل سلوكك وترد عليك بلطف، كل هذا في أجزاء من الثانية.

دراسة من MIT سنة 2024 أظهرت أن 73٪ من الناس يستخدمون تطبيقات تعمل بالذكاء الاصطناعي يوميًا، دون أن يدركوا ذلك. ربما أنت من بينهم، وأنت لا تعلم.

انظر حولك: هل لديك كاميرا مراقبة لطفلك؟ إنها لا تكتفي بنقل الصورة، بل تفرّق بين بكاء الجوع وبكاء الخوف، وترسل تنبيهًا دقيقًا إلى هاتفك. هناك تطبيقات تعليمية تصحّح نطق طفلك للغة الإنجليزية وكأنها لعبة. في المطبخ، أصبح هناك مساعدون رقميون يملكون ذوقًا يشبه ذوقك! تطبيقات مثل Yummly تقترح عليك وجبات بناءً على مكونات الثلاجة وتاريخ وصفاتك المفضلة. بل وتتذكّر أنك لا تحب الباذنجان، وتستبدله بالبروكلي دون أن تطلب.

في جيبك أيضًا حارس خفي: هاتفك الذكي قد يتنبّأ بمحاولة سرقة أو سقوط، فيرسل إشعارًا للطوارئ أو يقفل نفسه بكلمة سر مؤقتة. حدث هذا فعلًا في دبي، حيث أنقذت خاصية في آيفون شابًا بعد تعرّضه لحادث سير بفضل "كاشف الاصطدام".

أما على معصمك، فقد صارت الساعة أكثر من مجرّد أداة لمعرفة الوقت. تخيّل أن تنقذك من جلطة قلبية أو تنبيهك بارتفاع ضغط دمك. هذا ما حصل مع امرأة أمريكية في 2023، حين نبّهتها ساعة آبل باضطراب في نبضها، فذهبت إلى المستشفى ليكتشف الأطباء انسدادًا خطيرًا في الشرايين. الذكاء الاصطناعي لا يهتم فقط بصحتك الجسدية، بل حتى بحالتك النفسية. بعض التطبيقات تحلل نبرة صوتك في المكالمات وتقترح تمارين تنفس إذا شعرت بتوتر أو قلق.

لكن، وسط هذا الانبهار، يهمّنا أن نسأل أنفسنا: هل نثق أكثر من اللازم؟ في عام 2024، انتشرت صورة مزيفة لنجم سياسي شهير، أنشأها ذكاء اصطناعي، وتسببت في موجة جدل كادت تؤدي إلى أزمة دبلوماسية. هذا يذكّرنا أن الذكاء الاصطناعي أداة بيد البشر. يمكنه أن يبني، لكنه أيضًا يمكن أن يُستخدم للتضليل.

لهذا، من الحكمة أن نضع حدودًا ذكية. لا تمنح كل تطبيق صلاحية الوصول إلى موقعك أو فتح باب منزلك عن بُعد. راجع إعدادات الخصوصية، وفكر قبل مشاركة بياناتك. الذكاء الاصطناعي يعمل من أجلك، لكن لا تجعله يعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك.

ومع كل هذا، فإن المستقبل يبدو مشوّقًا. ماذا لو كانت ثلاجتك تعرف موعد انتهاء الحليب وترسل طلبًا للسوبرماركت تلقائيًا؟ أو كانت طائرات صغيرة تطير فوق المزارع في الصحراء لتشخيص أمراض النباتات قبل انتشارها؟ ماذا لو صارت السيارات تعرف مزاجك من تعبير وجهك، وتقلّل سرعة الراديو إن شعرت أنك منزعج؟

نحن لا نتحدث عن المستقبل البعيد، بل عن الغد القريب جدًا. عن عالمٍ يزداد ذكاءً... لكن، أيضًا، يمكن أن يزداد إنسانية. حين يُعلّم الذكاء الاصطناعي طفلًا كيف ينطق "شكرًا"، أو يُنقذ حياة مريضٍ قبل أن تنهار قواه، فإننا نبدأ رحلة جديدة. رحلة لا تستغني عن القيم ولا المشاعر، بل تُضيف لها أدوات أكثر تعاطفًا ودقة.

في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس كائنًا خرافيًا. إنه مجرد مرآة لطريقتنا في التعامل مع التقنية والإنسانية معًا. قد لا نراه، لكنه حاضر، كخيط سحري ينسج تفاصيل يومنا... فهل نحسن استخدامه؟