لم تكن فتاة من قصائد، كانت من لحم ودم وتنهدات وكان الشعر يأتي صمتا متموجا كالبخور من روحها. كنت قد قدمت استقالي للتو من عالم التهريج المُسمى حبً، وضعت أسهمي في المشاعر رهن البيع، الغيرة، الغضب و القسوة التي ورثتها عن أبي، بما في ذلك التأمل و مطاردة القاصرات، رغم أن الأمر لم يكن يسيرا علي، خصوصا مع الغيرة، تركت أمرها لمن يستحقها ولم ألتفت ورائي. كنت أعد نفسيتي وأرتب أموري من أجل تغيير كامل ونهائي. فجأة وفي تلك الليلة المرعدة تغير قراري وتغيرت حياتي وكان السبب دون أدنى شك هي، روحها الجاذبة إلى ملكوت كامل من المجهول اللذيذ. كان لابد أن أودع هذا الحي الكئيب الذي أحببته قبل أن أرحل، الأماكن مثل الناس، مثل الأقارب، وبالضبط مثل الأخوات الكبيرات ومثل الأمهات، حيث وداعهن يظل جارحا دائما ومشوبا بالدموع. أكره الوداعات. أرحل في الغالب بغتة وبصمت، في الفجر حين يكون أهل البيت نياما. أسحب الباب ورائي ببطء شديد كي لا يحدث أي صرير يوقظ العواطف. أقف لحظة صامتا أتأمل الباب، أتأمل تآكله، أشعل سيجارة وأذهب في الضباب لافا كشكولي حول عنقي دون أن ألتفت. كان وداعي للمدينة السهر ثلاث ليال في حاناتها. وقع اختياري أخيرا على حانة الميناء، حانة البرتغالي الضابط، وحانة الكنغر الزجاجي. أقصيت حانة الأناركيين القدامى بصعوبة. الليلة الأولى كانت السهرة عادية تليق بوداع عادي لمدينة عادية، السهرة الثانية لم تكن سوى تكرار، إلى درجة أني شعرت بالاكتفاء. رغم ذلك ارتديت طقمي الأزرق الأنيق الليلة الثالثة، تعطرت، ابتسمت أمام المرآة لنفسي وقصدت حانة الكنغر. كان لابد لي من توديع لوحاتها، إنه نوع من التوديع الحقيقي لمدينة محفورة في ذكرياتي. مرت السهرة سريعا كما لو أن المدينة أيضا تكره الوداعات. أنهيت الزجاجة بالكاد وأخذت أستعد للعودة إلى البيت وفي تلك اللحظة بالذات من خلف الكأس رأيتها. لم أرها تدخل وتجلس. رأيتها مباشرة تشرب وفوقها لوحة القديس الباكي. رأيتها مباشرة كاملة وناضجة وأزلية كما لو أنها جزء من المكان، كما لو أنها روح المدينة. لقد حدث ذلك بالفعل، ليس في حلم وليس في فيلم. بلباسها الشتائي الأسود وبالخاتم لامعا في أصبعها، بأناقة الكونتيسات وبساطة بائعات الخبز. وبمجرد ما التقت عيوننا حتى عرفت أن شيا ما عظيما سيحدث. لا تلتقي تلك المرأة كل يوم، إنها تأتي مرة واحدة في العمر، تأتي لتكون امرأة حياتك، وربما تذهب بعد ذلك، بعد أن تتركك دون حياة، تبحث عنها في كل النساء، في هذه وفي تلك دون جدوى، وأخيرا تجلس وحيدا في مقهى صباحي وفي يدك عكاز لتتأمل سقوط الأوراق اللولبي من الأشجار. كانت جالسة هناك كما لو أنها المدينة. لم أتخيل ابتسامتها، إنها ابتسامة حقيقية تقصدني، كما لو أنها جاءت من أجلي فقط مرسولة من طرف العاصفة والأمطار والسدم الكونية المعتمة. ليس من عادتي الوقوف والمشي بثبات في اتجاه سيدة في حانة وتحريك الكرسي والجلوس والنظر بعمق في عينيها. عمل جنوني للغاية يفتقد إلى اللياقة، ما أفعله عادة هو الشرب والتدخين والإصغاء إلى الموسقى وقراءة كتاب الشعر الذي يكون في يدي تاركا لجلبة الحانة أن تتلاشى داخل بواطني شيئا فشيئا. سوى أن ما حدث هذه المرة هو ذاك. كما لو أني أعرفها، كما أو أني انتظرتها طويلا وتلك هي ساعة الحسم. وقفت وتمشيت بثبات في اتجاهها وجلست وحدقت طويلا في عينيها العسليتين اللامعتين في ضوء الخمر، حدقت فيها بعمق آبار سحيقة، كما لو أني ألومها لأنها تأخرت كثيرا، وبادلتني تلك النظرة الأمومية الشفوقة الحائرة مشفوعة بابتسامة عذراوات الكنيسة. لم أكن أحلم. الأحلام نفسها لا تأتي بكل ذلك الترتيب وبكل ذلك الإغواء. كنت أريد أن أبكي متوسدا صدرها، حدقت فيه، كان يانعا نافرا ببطء وكافيا لإسناد رأسي عمرا كاملا. كنت محتاجا لتلك الدموع علها تغسل ما مر بي. دموع ملتهبة أمسحها في صدرها العاري وألحسه كرضيع. أردت أن أبكي ونحن عاريان نتضاجع بلهفة شديدة. أردت أن تعيرني بعض الدموع من عينيها الكبيرتين. أردت كل ذلك بكل وجداني وبكل جوارحي وبكل صمتي المزمن. أخرجت سيجارة ومدتها إلي، انتبهتُ إلى أنها نفس ماركة سجائري.
اسمي هدى قالت، لا أدخن كثيرا، سوى أني أحب رائحة التبغ، ما اسمك؟
تخيلت أنها تمطر بغزارة أقوى في الخارج وتبرق وترعد وأن علينا البقاء في هذه الحانة إلى الأبد هكذا بنظرات مثبتة في بعض.
أجبتها: ما رأيك أن أطلب زجاجة؟
قهقهت ثم ما لبثت ملامحها أن تغيرت إلى جدية وعبوس وعمق مأساوي وأشاحت النظر بعيدا وقالت: أطلب زجاجة، نعم، ربما سنحتاج أكثر؟ ليس ضروريا هنا فقط بل ربما في مكان آخر، في كل مكان إن أردت. ما اسمك؟
أجبتها: (رشيد) في الحقيقة لا أحب اسمي، أبحث عن اسم جديد وحياة جديدة، لقد تدمر كل شيء، أنا الناجي الوحيد من دمار حياتي، كأي مولود جديد أحتاج اسما.
أجابت: هذه أول ليلة لي في هذه المدينة، أنا أيضا الناجية الوحيدة من دمار خلفته ورائي في مدينة أخرى. تنهدت وأكملت: أنا أيضا اسمي ليس هدى، نور الهدى.. إنه اسمي الجديد..
مرت الآن 6أشهر و نصف عن كل ذلك. عشتها كلها أنا وهدى، يوما بيوم. والآن ها أنذا وحيد في هذا الحي نفسه، الناجي الوحيد من دمار حياتين، سوى أني هذه المرة عاجز عن الرحيل. الأيام الباقية في حياتي خصصتها لسرد قصتي أنا وهدى، منذ يومها الأول إلى ذلك اليوم الخريفي الكئيب. حانة الكنغر الزجاجي ما تزال في مكانها.. الزوارق والمراكب في الميناء ما تزال في مكانها.. والنوارس أيضا ما تزال في مكانها...
رشيد
التعليقات