إن ما يعجبني في الأدب الروسي، أنه لا يُحدّثنا عن الأبطال الهوميرية والملوك، بل يُحدّثنا عني وعنكم، أبطال هؤلاء الروس يمكن أن تراهم في المرآة، أنا وأنت وهو وهي، العاديون الذين يمشون في الشوارع، الذين يعيشون في البيوت البسيطة ولا يسترهم إلا الجدران، أبطال مسحوقين بلا بطولة، هؤلاء الروس العظام وعلى رأسهم دوستويفسكي، يأتون إلى أحداثٍ عادية جدًا، أنت قد تراها عادية تافهة ومبتذلة، لكنهم يُمثّلون بها جوهر الشرط الإنساني، دائمًا يتركوني مشدوهًا بفمٍ فاغر، كيف أحيانًا قصة أو حدث بسيط يكتبونه في أقل من ثلاث صفحات، يجعلني أتأثر! ويحدث عندي تغيّر دراماتيكي في أشياء معينة، وأبقى صامتًا أتساءل: ما الذي حدث! ماذا فعل هذا الرجل بي!
لقد كتب عالم النفس الشهير سيغموند فرويد وقال:
"إن دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس، الذين هم نحن."
وقد كان هذا السبب الذي جعلني أتعلق بهذا الرجل، فقد كان دائمًا يخبرني عني، ويفضحني أمام نفسي، وعن طبيعتي وماذا أكون وما يمكن أن أكون، تعرفون جميعًا أن أكثر ما يحتاجه المرء في رحلة حياته هو أن يكتشف نفسه ويلتقي بها، وأنا أجد نفسي بين صفحاته.
لقد كان عارفًا بكل ما له علاقة بالإنسان، لم يكن كاتبًا بالنسبة لي، بل كان عالم نفس، وقد كتب عنه الأديب النمساوي ستيفان زفايغ وقال:
"إن دوستويفسكي بالنسبة لنا اليوم أكثر من فنان، إنه مفهوم روحي سيكون عُرضةً للتفسير والإدراك المرة تلو الأخرى، فصورة هذا الكاتب الروسي تتغلغل اليوم بنورها في جميع مجالات الحياة الروحية"
وقد أخذت كل أعماله طابعًا سوداويًا، إذ أنه لم يعش حياةً سهلة، بل كانت زاخرة بالمعاناة، ورغم آلامه السحيقة وحياته التي لم تنجو أبدًا من البؤس إلا أنه يعلمنا أن نقبلها لكي نُولد منها:
"اقبل معاناتك، يتم فداؤك بها"
لقد كانت هذه رسالته إلى العالم الذي يركض كالمسعور خلف أوهام السعادة، وما السعادة الكاملة إلا سراب، والمتألمون هم أكثر الناس إبصارًا للجمال.
ما هي أبرز أعماله؟
لقد كانت "رواية الفقراء" هي رائعته الأولى والتي لاقت صيتًا مجنونًا حول العالم وشهرة واسعة، وعلى الرغم من قِدم هذه الرواية التي سطع نورها لأول مرة في منتصف القرن التاسع، إلا أنها لا زالت متوهجة إلى يومنا هذا ولم تفقد حضورها، فقد تناول فيها معاناة الطبقة الكادحة والبسيطة التي تكافح من أجل العيش وتُصوّر محاولاتهم المسكينة واليومية في السعي من أجل البقاء.
وقد أخبرني في "مذكرات من تحت الأرض" أنه مهما حاولنا أن ننهي عذاب البشرية، فإن طبيعتنا دائمًا ستوجهنا لأن نصبح تعساء بطرقٍ أخرى، لقد كان عملًا سوداويًا ومُربكًا وبصيرًا ينطبق بشدة على الليبرالية الحديثة حسنة النيّة.
أمّا "مُذلون مُهانون" فهو واحد من تلك الكتب التي كُتبت مباشرة من القلب، وكُتبت فضلًا عندي ذلك من قلب كبير، ومثل هذه الكتب لا تسبب للمرء الملل قط، وذلك لأنها كُتبت بإخلاص، ولقد تعرفتُ فيها على المرضى القابعين في كلٍ منّا، وعن الحب من طرفٍ واحدٍ والمشاعر التي لا ينبغي لها أن تبقى.
وهناك الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف والمقامر والشياطين وغيرها.
الحق أقول لكم: إن أعماله كلها جديرة بالقراءة، لأن ما يميزها أنها صالحة لكل زمان ومكان، وهنا تكمن عظمة هذا الكاتب الذي لم يُطفئوا نوره من جاءوا بعده.
هل قرأتم شيئًا لهذا الأديب والعالم الجميل؟ أخبروني عن التجربة الأولى وماذا قرأتم؟ وماذا تعرفون عن الأدب الروسي؟
التعليقات