حضارة الهمج 

إن مفهوم كلمة ( حضارة ) تعني حضور قوم ما في مكان ما في زمان ما وقاموا بتجسيد قيمهم وقوانينهم وأفكارهم ومفاهيمهم وتصوراتهم وفنونهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ومنجزاتهم العلمية والمادية والعمرانية، وأولئك القوم قد يكونون قوما فاسدين مفسدين في الأرض عندما تكون حركتهم في الحياة حركة لا تتوافق مع السنن والقوانين الحاكمة للوجود القائم ولحركة الحياة، وقد يكونون قوما صالحين مصلحين في الأرض عندما تتوافق حركتهم في الحياة مع السنن والقوانين الحاكمة للوجود القائم ولحركة الحياة، ولذلك تصبح كلمة ( حضارة ) كلمة محايدة تحدد ( همجيتها وإنسانيتها ) القيم والقوانين والأفكار والمفاهيم والتصورات والفنون والعادات والتقاليد والأعراف  والمنجزات التي تجسدت على أرض الواقع .

أما كلمة ( الهَمَج ) تطلق على القوم الرعاع الذين لا يراعون حرمة ولا ديناً ولا أخلاقاً، وهي كلمة تستعمل للوصف بالوحشية والتخلّف، فكلمة "الهمجي" تستخدم للدلالة على الوحشية، سواء في قتل أو في قصف أو في تدمير أو في أي تخريب عام ضد الناس وأملاكهم من زرعٍ وبناءٍ ومنجزات .

بتاريخ 9 / 12 / 2023 صدر " فيتو" أمريكي ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار بغزة بالرغم من مشاهدة الناس لأعلى درجات الهمجية والتخلف والإنحطاط والتوحش التي تمارس ضد أهل غزة رضي الله عنهم، إن الفيتو " الأمريكي " كان أبلغ وأصدق تعبير عن ( حضارة الهمج )، فهاهم صناع وأبناء تلك الحضارة يعبرون عن أنفسهم بكل صراحة ووضوح فعلينا في المقابل التعبير عن أنفسنا كمسلمين وبكل ثقة وشجاعة ونتساءل من نحن ؟ . فهل أصبح حالنا من حالهم وأحوالنا من أحوالهم بسبب طوافنا في فلكهم وفي فلك أفكارهم الخاطئة والفاسدة ؟، أم أصبحنا أتباعا وعبيدا لأولئك الهمج والرعاع ؟ .

من نحن ؟ … لمن لا يعرفون من نحن سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، نقول لهم .

نحن المسلمون أصحاب رسالة ربانية أرسلت للناس كافة وعلينا مسؤولية تبليغ تفاصيلها للآخرين، فنحن ورثة المنهج الرباني الذي يحوي أفكار الرسالة التي يجب أن نطوف في فلكها ونجسد قيمها بعد الولاء المطلق لله عز وجل ولأفكار الرسالة، فهو الطواف الذي يجعلنا خير أمة أخرجت للناس، وهو الطواف الذي يجعلنا من الذين قال تعالى عنهم ( … أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ … ( 22 ) المجادلة … نعم إنه ( الروح ) الذي يفتقده كل من جعلوا طوافهم في فلك الأشخاص وأفكارهم الخاطئة والفاسدة وفي فلك الأشياء، ومن ضمنهم من اعتنقوا دين الإرث والإلف والعادة والحمية والعصبية، فهو (  الروح ) الذي يمد الإنسان ( بالنور الأعلى ) وينير بصيرته ويحفظه من الانحدار إلى أسفل سافين وفي المقامات الدنيا التي ينحدر إليها الإنسان ليصبح في مصاف ( الهمج والرعاع ) … (  لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) ) التين .

قد يتساءل البعض ، ماذا بعد ( حضارة الهمج اللاإنسانية ) التي تلفظ أنفاسها الأخيرة ؟، وما هو الفرق بينها وبين ( الحضارة الإنسانية ) ؟، 

بعد ( حضارة الهمج اللاإنسانية ) وبإذن الله تعالى ستتحقق نبوءة رسول الله ﷺ التي جاءت في الحديث الصحيح المعروف والمشهور ( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ) وهو تحقق سيكون بتدبير رباني ليتحقق المشروع الرباني في تمكين المؤمنين المستضعفين لإصلاح الأرض بعد إفسادها ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) القصص .

والفرق الجوهري بين ( حضارة الهمج اللاإنسانية ) وبين ( الحضارة الإسلامية الإنسانية ) هو ( الروح ) الذي يرتقي بالإنسان ويرفعه من المقامات الفكرية والروحية السفلية إلى المقامات العلية وينير عقله وبصيرته ويرفع من مستوى وعيه وشعوره ويوسع أفقه ومداركه، ( فحضارة الهمج ) تجسدت بها قيم وأفكار ومفاهيم وتصورات الهمج والرعاع الذين اكتفوا ( بالنور الأدنى )  الذي أنتج لهم ( عقل المعيشة فقط ) وهو العقل الذي بنوا بواسطته حضارتهم ومنجزاتهم العلمية التي صادرتها الشياطين التي تتلبسهم بسبب جهلهم ووجهتها نحو انحدار وإيذاء وفناء الجنس البشري، فالتأييد بالروح هو البديل عن تسلط وتلبس الشيطان للإنسان الذي انحرف عن منهج الرحمن وعن الصراط المستقيم، وهو الذي يمد الإنسان ( بنور الله الأعلى ) الذي ينتج للإنسان ( عقل الهدى والرشد )، أي أن هناك نورين من الله عز وجل ( النور الأدنى ) وهو نور يهبه الله عز وجل للمؤمن ولغير المؤمن، و ( النور الأعلى ) الذي يهبه الله عز وجل للمؤمنين الذين يسلكون سبيل الذين أنعم الله عليهم بالهدى ونور اليقين، والشياطين لا تخشى ( النور الأدنى ) فهي تستعمله لتنفيذ استراتيجياتها وسياساتها وخططها،ولكنها تخشى ( النور الأعلى ) وتفر منه .

وبناء على ما تقدم يمكننا وصف ( حضارة الهمج ) التي قرب أفول نجمها بحضارة ( النور ) أي أفول حضارة ( النور الأدنى فقط ) وأما ( الحضارة الإسلامية الإنسانية ) التي قرب شروق شمسها من جديد فهي حضارة النورين  " نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ " ( … نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ … (35) ) النور . فهي الحضارة التي تتطلع لها الأرواح المتعطشة الظمآنة للإرواء الروحي والعلمي والمعرفي بعد ما جفت الأرواح بسبب تجاهل الناس لما يروي ظمأهم بعد ما شغلتهم الشياطين وشاغبتهم وصرفتهم عن الإهتمام بمصيرهم الموعود … ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) ) فاطر .

فعلى المؤمنين المبصرين السعي والعمل باتجاه ما يحقق الأمن الفكري والروحي والنفسي لأخيهم الإنسان لتخليصه من براثن الشيطان حتى يتحقق الأمن الإنساني، فإذا كسبت الإنسانية معركة الوعي كان الخلاص من الأسر والسبي العام الشيطاني الناعم الخفي . 

إن الحضارة الإسلامية حضارة إنسانية أخلاقية علمية .

وهل هناك مؤمنون غير مبصرين؟ 

نعم هناك مؤمنون غير مبصرين لأن الله عز وجل لم يكتب الإيمان في قلوبهم ولم يؤيدهم بروح منه لعدة أسباب، على رأسها سوء الفهم وفساد بعض الموروث واعتناق دين الإرث والإلف والعادة والحمية والعصبية، فهو الدين الذي أوجده ملوك فترة الملك العاض الذين قال عنهم رسول الله ﷺ في الحديث المعروف والمشهور ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) فأولئك الملوك كانت أهم مسألة بالنسبة لهم والتي سفكت من أجلها الدماء هي مسألة ( كسب ولاء الجند والمحكومين ) فذلك أثر على فهم وتطبيقات ( عقيدة الولاء والبراء ) في الحياة الاجتماعية والسياسية، والناس على دين ملوكهم، ولذلك من أغرب المسائل على معتنقي دين الإرث والإلف والعادة والحمية والعصبية مسألة ( التأييد بالروح ) فهي المسألة التي يجب أن يعيها كل من يعمل باتجاه عودة الخلافة على منهاج النبوة، حتى لا يتفاجأ بما سيحدث، لأنها عودة ستكون مقرونة بعودة ( الروح أو التأييد بالروح ) للمؤمنين الذين يوالون الله عز وجل وأفكار الرسالة ولاءًّ مطلقا، عن أبي هريرة  عن النبي ﷺ أنه قال: (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )) صحيح مسلم، 

فإذا قدر الله عز وجل للخلافة أن تعود من الطبيعي أن تكون الأحوال الروحية للقيادات السياسية التي يمكنها الله عز وجل مغايرة للأحوال الروحية السائدة، فهي ستكون بإذن الله عز وجل بدلا من ( وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) … ( سيقوم فيهم رجال مؤيدهم الله بروح منه ) فهذا ما تتطلبه ( الحرب الفكرية والروحية ) لمواجهة إبليس وذريته الذين يحكمون العالم منذ عدة قرون .

محمد عبدالمحسن العلي - الكويت - وطن النهار - 

10 / 12 / 2023