إن القرآن كلام الله تعالى وفيه علم الله تعالى وآثار أسمائه وصفاته تبارك وتعالى وكلام الله تعالى مطلق رسماَ ولفظاَ ومعنى , ينطق بالحق وبالحق نزل ويهدى للحق وإلى صراط مستقيم.
إن كلام الله تعالى مطلق من الزمان والمكان وفوق الزمان والمكان , لذلك لا يمكن أن نفهم القرآن ونستخرج كنوزه ودرره إلا إذا تلقيناه في كل مرة نتلوه مطلقاَ من الزمان والمكان من حيث عمق التأويل وأفق المعنى .... وهذا هو السبب الرئيس في هجر القرآن كمنهج حياة وشريعة تحكم الشعوب والأفراد .. ويا حسرةَ على العباد الذين آتاهم الله الكتاب المبين والمنهج القويم والصراط المستقيم ثم هم معرضون عنه شريعة ومنهاجا وأصبح مجرد بركة وترانيم على السنة القراء دون فهم وبلا وعى .
فتجد في كتب التفسير هذه آيات نزلت في فلان ... وهذه آيات نزلت في أهل الكتاب ...وهذه آيات منسوخة ... وهذه متشابه غير مفهومة ولا معنى لها ... وهكذا تم جعل القرآن عضين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه !!
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوامُهْتَدِينَ﴿١٦﴾
وقد رسمت كلمة الضلالة بحذف الألف وكذلك كلمة تجارتهم لأن الوصف في الآية الكريمة من منظور عالم الحقائق الذى تنتمى إليه النفس وتطل عليه إذا تغلبت على أهوائها وشهواتها واستشرفت إلى السمو الروحي
لذلك تأتى هذه الكلمات بهذا الرسم لتصف وترسم صورة هؤلاء من منظور عالم الحقائق المجرد من الزمان والمكان
أوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَٰعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَٰفِرِينَ﴿١٩﴾َ
يكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴿٢٠﴾
مضى المثل الناري لهذا الصنف من الناس وهذا هو المثل المائي , والأمثلة في القرآن الكريم رموز تحمل من المعاني والحكم والعبر ما لا يحيط به التصور ولا تبلغه العقول مهما تجردت , وما يعقل ظاهرها إلا العالمون بالكتاب العاكفون عليه ينهلون من درره وأحكامه فيزدادون خشية لله تعالى ورهبة وإنابة , وما يبدو لنا في هذا المثل تشبيه لحياة هؤلاء النفسية , فهم يعيشون في عالم موحش مظلم بارد تصفر فيه الريح ويزمجر فيها الرعد , والبرق يكاد يختطفهم بصواعقه المهلكة , وهم في غاية الضعف والذلة إذ لا يملكون إداء هذه القوى العاتية الجبارة إلا أن يضعوا أصابعهم في أذناهم ويغمضون أعينهم أملاَ أن يخفف ذلك من هلعهم ويبعد شبح الموت - المحيط بهم – عنهم .. فهم في هذا المثل الرائع كالأنعام إذا رأت الخطر أقبل عليها تدفن رأسها في الرمال بدلا من أن تتخذ الوسائل المناسبة للنجاة من الهلاك المحقق القادم عليها ... وهكذا أصحاب هذه المثل فهم في حياتهم الدنيا معرضون عن الإيمان النافع والتوحيد الخالص ويتكلمون بألسنتهم يزعمون الإيمان وينتسبون لكل مكرمة وفضيلة وهم منها خواء , ورغم المصائب التي تصيبهم في طريقتهم هذه ورغم العبر التي يسوقها الله تعالى إليهم والآيات والنذر إلا أنهم لا يعقلون ولا يفقهون شيئاَ فهم سكرى بحب الدنيا والعلو فيها وطلب متاعها الفاني ويبذلون في سبيل ذلك مهجهم وغاية جهدهم وليس للآخرة عندهم إلا فتات وقتهم وجهدهم إن سمحت بذلك أهوائهم بذلك وبقى فيهم قصد ونية , فهم عند المصائب جامدون متبلدون لا يتدبرون ولا يتعظون , وفى حال الصحة والعافية وإقبال الدنيا عليهم يمشون فيها كأنهم مخلدون فيها فرحين ومستبشرين بغير الحق فطال أملهم وفسد كل عرق فيهم , وماتت حواسهم السمع والبصائر فما عادت تنفعهم بشيء ولا تغنى عنهم شيئاَ , ولو شاء الله تعالى لأخذ هذه الحواس المعطلة التي يستخدموها في معصية الله تعالى ليلاَ ونهاراَ , لأنها معطلة فقط في طاعة الله تعالى وطلب مرضاته ولكنها تنبض بالحياة في غير مرضاته تعالى ,, بل في ما يسخطه تعالى عليهم ... لكن صفة الحليم لله تعالى تعمل عملها وتسع مثل هؤلاء الضالين المدعين للإيمان وتؤخر عنهم العذاب إلى حين .. فالله تعالى بهم عليم ومن ورائهم محيط وقائم عليهم بما كسبوا والله على كل شيء قدير.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾
تبدا السورة الكريمة من هذه الآية فصلاَ جديداَ من الدعوة بأساليب متنوعة فيها التعليم والتنوير والترغيب والترهيب , والوعد والوعيد , والتذكير والتهديد , وفى نفس الوقت في دعوة تامة وشاملة وبأسلوب جزل موجز بليغ قد بلغ الغاية وأحاط بالمعنى المراد وأفاض في تنويع الخطاب وجلل الخطب وحذر من مغبة العناد وشوق إلى دار القرار وبهجة النفوس وقرة العيون والخلد الذى لا يزول ولا يحول كل ذلك في كلمات وجيزة وجمل قصيرة ولكنها ترسم لوحة عظيمة , تمتد عبر الزمان البعيد من بداية الخلق والتكوين , تنادى الآية الكريمة الناس أجمعين بهذا النداء الحنين وهذا التكريم إذ يناديهم رب العالمين وفى هذا من الإفضال والإنعام ما لا يطيق الناس شكره ولا يقومون ببعضه ولو إجتمعوا لذلك أجمعين بلسان واحد في صعيد واحد إلى يوم الدين , فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .