إن المسيح عليه وعلى امه السلام كان طفرة نوعية في تاريخ الرسل والرسالات, ونقلة بعيدة المدى في أفق الآيات والمعجزات الربانية التي يجعلها الله تعالى شاهدة على قيوميته وقدرته المطلقة ومشيئته النافذة وعظمته القاهرة فوق عباده.

وكل ما سبق من تهيئة ورعاية واصطفاء واجتباء وتطهير وحراسة الملائكة لمريم العذراء البتول كان من اجل هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ الرسل والرسالات, لذلك امر الله تعالى ملائكته الموكلة بحراسة مريم الطاهرة أن تبشرها بهذا الاصطفاء العظيم لتكون امرأة ليس مثلها امرأة في تاريخ البشر كله, إنه اصطفاء فوق اصطفاء, وقد وصفت الملائكة الكرام لمريم هذه الآية العظيمة وصفا وافياً لتطمئن....

 وتهدأ من نبض قلبها.... الذي يتسارع منذ سمعت البشرى.... وكلام الملائكة معها,

 انه ولد لها من غير نطفة الرجال انه نفخة من روح الله تعالى وكلمته العظيمة منحها لك أيتها العذراء الطاهرة.

 يعيش وجيها وذو سؤدد في الدنيا وكذلك يبعث يوم القيامة وجيها له مكانة مرموقة عند ربه ومولاه, 

فهو من المقربين الذين لا خوف عليهم أبداً ولا هم يحزنون, 

كما أن الآيات تصاحبه أينما كان وحل ومنذ الصغر وهو مازال في المهد.

فكما ذكرنا آنفاً فإن عيسى عليه السلام كان طفرة نوعية في تاريخ الرسل ونقلة بعيدة على محور الرسالات وهذه بعض عناصر هذه الطفرة النوعية والنقلة البعيدة:

كانت الأنبياء والرسل ينزل عليه الوحي والنبوة بعد سن الأربعين في غالب الأمر, ولكن عيسى بن مريم كان نبياً منذ مولده يتكلم في المهد بالحق ويدعوا إلى عبادة الله تعالى الواحد القهار.

للأنبياء والرسل حياتهم الخاصة مع زوجاتهم وأولادهم, وكانوا يمشون في الأسواق لطلب الرزق وفضل الله تعالى, أما عيسى بن مريم لم تكن له حياة خاصة ولم تكن له زوجة ولم يفكر في امرأة قط كما يفكر فيها الرجل, ولم يكن يسعى في الأسواق لطلب المعايش , بل كان عليه السلام وحياً وآية عظيمة تمشي على الأرض وليس له أي صفة آخرى غير ذلك , وكان رزقه كما هو الرزق الذي تعود عليه وتغذى منه وهو في بطن امه البتول الطاهرة العذراء, يتبعه حيث كان هنيئا مريئاً من غير كد وتعب.

الآية والوحي والمعجزة اندمجت في شخص المسيح عليه السلام, بلا انفصال, في حين أن الأنبياء كانت آياتهم ومعجزاتهم خارج ذواتهم ومنفصلة عنهم , كذلك الوحي كان يأتيهم عن طريق واسطة الرسول الملكي في بعض الأوقات دون بعضها الآخر, أما المسيح عليه السلام فكان هو نفسه آية صدقه ونبوته وهو نفسه معجزة رسالته ودعوته , وكان الوحي يتكلم على لسانه لأنه كان على اتصال دائم بروح القدس فلم يكن ينتظر الرسول الملكي ليجيب على سؤلات الناس واستفتاءاتهم والتصرف المناسب في مختلف الظروف والأحوال.

الأنبياء نفوس بشرية ذكية وأرواح شريفة على قمة سلم الحياة البشرية ودرجاته, ولكن في نفس الوقت بشر من نطفة بشرية من آبائهم الذكور والإناث , أما المسيح عليه السلام فقد كان مثل الوصف السابق إلا في بناء جسده الشريف فلم يكن من نطفة بشرية من ذكر وأنثى, وإنما كان نفخة من روح الله تعالى وضعها الملك في جوف ورحم مريم الطاهرة, لذلك كان المسيح عليه السلام روحاً هائمة وطاغية على جسده الشريف النحيف الضعيف, كانت روحه تفيض عن جسده وتنسال من أنامله الرقيقة, فكانت تحي الموتى بإذن الله تعالى, وتبرئ الأكمه والأبرص والأمراض المزمنة بإذن الله تعالى, وكان ينفخ في الطين فيكون طيراً حياً يطير بإذن الله تعالى , وهذا كله بسبب روحه الطاغية الفائضة عن جسده الشريف, لذلك كله كان المسيح عليه السلام طفرة نوعية كبيرة في تاريخ الرسل ونقلة بعيدة المدى على محور الرسالات السماوية .